قتل الأهل والأقارب عند تنظيم الدولة
قراءة في الوثائق الرسمية للتنظيم
إبراهيم بن عمر السكران
–مدخل:
الحمد لله وبعد،
كنت مرةً أستمع لكلمة للمتحدث الرسمي باسم تنظيم الدولة، أبو محمد العدناني، فوجدته يلوم فيها الناقدين على مصادرهم في تصور سلوكيات التنظيم، ويطالب النُقّاد أن يرجعوا للوثائق والمواد الرسمية الصادرة عن التنظيم، حيث يقول العدناني في كلمته:
(فمن أراد الإنصاف فليتَّقِ الله فينا ، وليحكم علينا من خلال بياناتنا وإصداراتنا وخطاباتنا ، أو من خلال دليل شرعي يُثبِت فيه خلافَ ما ندّعيه)[أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: لك الله أيتها الدولة المظلومة، مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، الدقيقة: 13]
وفي بيان رسمي آخر لتنظيم الدولة يؤكد أبو محمد العدناني مجدداً على ضرورة الرجوع للوثائق والمواد الرسمية الصادرة عن تنظيمه، ويحذر من الأخذ عن وسائل الإعلام، حيث يقول العدناني
(ومن أراد أن يعرف منهج الدولة وسياستها وفتاويها فليرجع إلى قادتها وبياناتها وخطاباتها ومصادرها، لا أن يأخذ ذلك من وسائل الإعلام المحاربة للدولة، أو أفواه أعدائها)[أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: إنما أعظكم بواحدة، مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، الدقيقة: 30].
حسناً، لا شك أن هذا المطلب الذي ذكره العدناني، أعني “الرجوع للمواد الرسمية الصادرة عن تنظيم الدولة” هو مطلب موضوعي، وأن الرجوع للمواد الرسمية للتنظيم هو أحد أساسيات البحث العلمي في تشكيل التصور عن عقيدة وسلوك هذا التنظيم، بالإضافة لوسائل الإثبات وطرق البينات الشرعية الأخرى كالاستفاضة والشهادة والقرائن ونحوها، السالمة من القوادح والمعارض الراجح، ولكن تبقى المواد الرسمية الصادرة عن التنظيم هي الوسيلة الأم لأنها بمثابة “الإقرار“، والإقرار هو أقوى البيِّنات ووسائل الإثبات، بل إن الجاري في لسان متقدمي الفقهاء إخراج الإقرار من اسم البيِّنة أصلاً ويجعلونه فوقها، إذ البينة عندهم الشهادة، كما يقول ابن قدامة مثلاً (الإقرار أقوى من البيِّنة)[ابن قدامة، المغني، ص 7/330].
ولأجل ذلك فقد عزمت على دراسة الوثائق الرسمية الصادرة عن تنظيم الدولة، كخطوة أساسية في تشكيل التصور العلمي عن هذا التنظيم، وهي الحد الأدنى الذي لا يخالف فيه أحد، لأنها كما سبقت الإشارة “إقرار“، وقد تعزز ذلك بدعوة التنظيم نفسه في بياناته الرسمية مراراً للقراء والمتابعين والمراقبين أن يرجعوا لوثائق التنظيم الرسمية.
وقد رأيت أبا محمد العدناني يطلب في كلمته المنقولة آنفاً الرجوع إلى البيانات والإصدارات، فأما البيانات فهي بشكل أساس كلمات صوتية يصدرها التنظيم بصوت العدناني نفسه بين فينة وأخرى، وأما الإصدرات فهي على مستويين، المستوى الأول: إصدار على مستوى التنظيم كله وهي مجلة التنظيم الرسمية “دابق“، والمستوى الثاني: إصدارات تخرجها ما يسمونه الولايات، كولاية حلب وولاية حمص ونحوها، إما إصدارات مرئية أو منشورات مكتوبة.
والمستوى الثاني، وهو إصدارات ما يسمونه الولايات، وإن كان يعبر عن التنظيم كما ذكر العدناني، إلا أنني رأيت عدم الاعتماد عليه في هذه الدراسة، وأن يكون الاعتماد الأساس على البيانات والإصدارات المعبّرة عن التنظيم ككل.
ولغرض هذه الدراسة قمت بدراسة وتأمل وفحص “البيانات الرسمية” للتنظيم التي تصدرها مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، وتُنشر في صيغة كلمة بصوت المتحدث الرسمي للتنظيم أبي محمد العدناني.
كما قمت بدراسة “المجلة الرسمية” للتنظيم وهي مجلة “دابق“، الصادرة عن مؤسسة الحياة، وقد صدر منها إلى لحظة كتابة هذه الدراسة عشرة أعداد، وهي مجلة تصدر بعدة لغات، منها: الانجليزية والفرنسية والألمانية والروسية، وأما اللغة العربية فقد أصدروا ثلاثة أعداد من المجلة بالعربية وهي العدد الرابع والخامس والسادس، وأما بقية الأعداد فليس لها إصدار عربي فيما رأيت، وأما العددين (التاسع والعاشر) فقد قام بعض منسوبي التنظيم بترجمة “بعض” محتوياته ونشرت على الشبكة، وقد صدر العدد الأول من هذه المجلة بواقع (50) صفحة، ثم مازالوا في الزيادة حتى بلغت صفحات العدد الحالي (80) صفحة.
وقد نشرت بعض المعاهد الأجنبية دراسات عن المجلة ومحتواها وإخراجها الفني ورسالتها الضمنية، وقد قرأت لعدد من خبراء الإعلام إبداءهم الذهول والدهشة من مستوى الاحتراف في الإخراج الفني للمجلة، والحقيقة أنني ليس خبرة بهذا الباب لكن هذا ما قرأته من تقييم الخبراء الإعلاميين، كما عُرِضت المجلة للبيع على موقع التسوق المشهور “أمازون“، ثم أثيرت ضجة إعلامية في بعض وسائل الإعلام الغربية عن ذلك، فأزيلت المجلة من موقع أمازون فوراً، ونشرت محطة (BBC) تقريراً عن ذلك.
وأما سبب اختيار اسم دابق للمجلة، فدابق اسم له بعض الحضور في أدبيات التنظيم الرسمية، وقد أخذوه من “أحاديث الملاحم” التي تكون في آخر الزمان، ويعقد لها أهل الحديث أبواباً معروفة في الجوامع والسنن، ومنها الحديث الذي في صحيح مسلم (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ..) ويعتقد تنظيم الدولة أنهم هم الذين سيمثلون هذا الحديث، ويهددون مناوئيهم بأن لهم موعداً معهم في دابق.
وأود التنبيه إلى أن ما كان من القدر المُعرّب من المجلة فالإحالة إلى الإصدار العربي منها، وما كان من القدر غير المعرب فالإحالة على عدد وصفحات الإصدار الانجليزي من المجلة.
ويهمني أن أشير إلى أن المقصود من هذه الدراسة ليس الرد والتفنيد، بل المقصود هو “الفهم والتصور” لاعتقادات هذا التنظيم التي تبعثه على ما رأى الناس من سلوكياته من خلال أرفع وثائقه الرسمية، على أنني سأُدرِج في ثنايا هذا العرض بعض المشاهدات والتحليلات لكنها غير مقصودة بالأصالة بل تأتي تبعاً، وإنما المقصود الأصل هو –كما سبقت الإشارة– استيعاب اعتقادات هذا التنظيم من خلال نصوصه الرسمية المعتمدة، وهذا هو الجزء الأول، وسيتبعه بإذن الله الجزء الثاني عن موضوعات أخرى من خلال وثائق التنظيم نفسها، وقد رأيت فصلهما لما طالت المادة.
–مدار مناطات الردة: الصحوات والبرلمانية:
من خلال دراستي لوثائق تنظيم الدولة الرسمية لاحظت أنهم يستعملون عدة أوصاف لتكفير المخالفين واستباحة دمائهم ويستحدثونها تباعاً، ولكن أشهر ناقضين عندهم يدور حولهما كلامهم وتكفيرهم للمخالفين واستباحة دمائهم هما ناقضان (الصحوات والبرلمانية).
فأما الأول ويسمونه “الصحوات” ويعنون به أي جماعة أو فصيل أو شخص يكون له موقف سلبي ممانع ضد تنظيمهم، وفي نفس الوقت يثبت لديهم أن له أية علاقة أو تواصل أو تفاوض بالقوى الغربية (يسمونها في خطاباتهم الصليبيين) أو يثبت لديهم أن له علاقة بالدول الإقليمية في المنطقة كدول الخليج وتركيا (ويسمونهم في خطاباتهم الطواغيت).
ومع الكثرة المفرطة لورود هذا المصطلح في خطاب تنظيم الدولة إلا أنهم يذكرون أنهم لم يخترعوا هذا المصطلح، وإنما كما يقولون في تعريف مصطلح الصحوات (الصحوات مصطلح سبكته البيادق الأمريكية لتجميل مرتديهم)[مجلة دابق، العدد الأول، رمضان 1435هـ، ص20].
واسم “الصحوات” وما تصرف منها مثل “الصحوجي” هي عند تنظيم الدولة من أشنع أوصاف الردة والخروج من الإسلام بالكلية، وموجِب من أعظم موجِبات استباحة الدم وحز الرؤوس وهدم البيوت وإحراقها وسلب الأموال.
ولذلك فإنهم كثيراً ما يضيفون لفظ الصحوات للفظ الردة كقولهم (صحوات الردة) ومن ذلك قول العدناني (ولن تغلب صحوات الردة إسلامكم إن شاء الله)[أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: فيَقتلون ويُقتلون، مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، الدقيقة:23].
وقد لاحظت أن إذا جاء الحديث عن قتل واستباحة دماء “الصحوات” فإن التنظيم في بياناته الرسمية يختار أقسى عبارات التكفير واستحلال الدم ليوضّح لمستمعيه أن وصف “الصحوات” هو من أشنع أوصاف الكفر والردة ونواقض الإسلام واستباحة الدم عندهم.
ومن ذلك مثلاً أنه لم يكتفِ بالقول بأنهم سيقتلون الصحوات، بل قال إن ألذ الدماء وأحلاها هي دماء من ينطبق عليه وصف “الصحوات“، كما جاء في أحد بيانات التنظيم:
(فاعلموا أن لنا جيوشاً في العراق وجيشاً في الشام من الأسود الجياع شرابهم الدماء وأنيسهم الأشلاء، ولم يجدوا فيما شربوا أشهى من دماء الصحوات، فوالله لنسحبنّهم ألفاً ثم ألفاً ، ثم والله لن نبقي منكم ولن نذر)[أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: والرائد لا يكذب أهله، مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، الدقيقة: 25].
ويلاحظ القارئ في هذا النص التهديدي في البيان الرسمي لتنظيم الدولة أنهم يفتخرون بجيوشهم في العراق وجيشهم في الشام، وأن هذه الجيوش جائعة وتشرب الدماء وتستأنس بمجالسة الأشلاء، وأن أعذب ما تتناوله هذه الجيوش هو سفك دماء من يتلبس بوصف “الصحوات“، فأشلاء هذه الصحوات هي أمتع جلساء مقاتلي تنظيم الدولة، وأن هذا بالتجربة والمقارنة، فهو يقول ” ولم يجدوا فيما شربوا أشهى من دماء الصحوات“، أي أنهم قاتلوا طوائف ودولاً كثيرة ولم يجدوا أهنأ في حلوقهم من شرب دماء الصحوات والاستئناس بمجالسة أشلائهم.
ومن اللافت أن هذا المعنى، أعني تشهّي دماء من تلبس بوصف “الصحوات” عندهم، معنى يتكرر في أدبيات التنظيم، بل إنهم أعادوا صياغة هذا المعنى في قصائد شعرية عن الصحوات كقول العدناني:
(أَنُسْلِمُها إلى الصحواتِ طوعاً؟! ** فتلك سجية القومِ الطغامِ
لقيناهم بآسادٍ جيـاعٍ ** ترى لحم العِدا أشهى طعامِ)
وكان البعض يتردد ويتحير في أوصاف الردة هذه باعتبار أننا لو طبقنا هذه المعايير لوصف الصحوات لدخلت أمم في هذا الوصف، ولكن تنظيم الدولة يوضح في بيانه الرسمي هذا أن كل هذا لا اعتبار به، بالغة ما بلغت أعدادهم، فيقول كما سبق “فوالله لنسحبنهم ألفاً ثم ألفاً، ثم والله لن نبقي منكم ولن نذر“.
ويرى تنظيم الدولة أن علاقة التنظيم بمن يسمونهم الصحوات هي صورة مطابقة لعلاقة أبي بكر الصديق والصحابة معه، بالمرتدين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يقول التنظيم:
(يا أجناد الشام.. إنها الصحوات ورب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، إنها الصحوات ورب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، لاشك عندنا ولا لبس، كُنا نتوقع ظهورها ولا نشك في ذلك، لأنها سنة الجهاد منذ زمن أبي بكر الصديق وحتى يومنا هذا، إلا أنهم فاجؤونا واستعجلوا الخروج قبل أوانهم، ولعل هذا من بركات الشـام التي لا يظهر منافقوها على مؤمنيها، فإياكم إياكم واللين معها، احملوا عليهم حملةً كحملة الصديق واسحقوهم سحقاً) )[أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: والرائد لا يكذب أهله، مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، الدقيقة:30].
هذا هو الناقض الأشهر والأشنع من نواقض الإسلام في أدبيات التنظيم، وهو “الصحوات“، الذي من تلبس بوصفه عندهم استبيح دمه، وأما الناقض الثاني عندهم فهو “الديمقراطية والبرلمانية الطاغوتية” فأي جماعة جهادية أو دعوية ترى مشروعية الإصلاح السياسي من خلال الدخول في البرلمانات وتخفيف الشر وتكثير الخير فقد ارتدت لأنها تقر الحكم بغير ما أنزل الله، ويستوي في هذا المرشح للانتخابات والعامي الناخب والمعين غير المشارك، فكلهم عند تنظيم الدولة خارجون عن ملة الإسلام مباحو الدم، وكلامهم عن هذا كثير جداً، ومن الشواهد على ذلك أن تنظيم الدولة نقل في أحد بياناته الرسمية كلمة لأحد قياداتهم وفيها:
(فكلُّ من يسعى في قيام هذا المنهج بالمعونة والمساعدة فهو مُتَوَلٍّ لهُ ولأهله، وحُكمُهُ كحُكم الداعين إليه والمظاهرين له، والمرشَّحون للانتخابات هم أدعياء للربوبية والألوهية، والمنتخبون لهم قد اتّخذوهم أرباباً وشركاء من دون الله، وحُكمُهُم في دينِ الله: الكفرُ والخروجُ عن الإسلام) [أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: عذراً أمير القاعدة، مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، الدقيقة:6].
ثم قال معلقاً عقب نقل هذه الكلمة “وهذا منهجُها، ومَن بدّلهُ استبدلناه“.
وقد طبّق التنظيم هذا المبدأ في تكفير كل من شارك في الإصلاح السياسي عبر العمل البرلماني، وسيأتي تفصيل ذلك تطبيقياً.
وهكذا فأغلب من رأيتهم حكموا بردته وأخرجوه من ملة الإسلام واستباحوا دمه من المجاهدين وأهل العلم والدعوة ورجالات الإصلاح والجهاد، إما أنهم أطلقوا عليه وصف الصحوات أو وصف الديمقراطية والبرلمانية الطاغوتية.
ومن الواضح أن تنظيم الدولة يحاول تركيب وصف “الصحوات” على الناقض الثامن “مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين “، أي باعتبار وصف “الصحوات” هو تطبيق معاصر للناقض الثامن من نواقض الإسلام، كما أنهم يحاولون بناء تكفيرهم للمعينين بوصف الديمقراطية والبرلمانية على الناقض الرابع “من فضّل حكم الطواغيت على حكم الشرع“، ثم أضافوا لهذا التوسع الشديد في المصطلحات والمفاهيم الفضفاضة تقليص موانع تكفير المعينين، سيما “مانع التأويل“.
ومن القواعد التي يتبناها التنظيم ولها أثرٌ واضح في خطابه قاعدتان: الأولى: عدم التفريق في التكفير بين الطائفة والأعيان. والثانية: تقديم قتال المرتد على قتال الكافر الأصلي.
فأما قاعدة عدم التفريق في التكفير بين الطائفة والأعيان فقد نشر التنظيم بحثاً في مجلة دابق نقدوا فيه بعض المقالات الخاطئة في التكفير، ومنها أنهم ذكروا قول من يفرق بين الطائفة والأعيان، فيقول مثلاً الجهة الفلانية طائفة ردة لكني لا أكفِّر كل أعيانها، فبيّن التنظيم أن هذا القول خطأ، وأنه لا فرق بين الطائفة والأعيان، وإذا وقعت الطائفة في الكفر انسحب اسم الردة على كل أعيانها، كما يذكر التنظيم أن بعضهم(يُفرِّق بين الطائفة وأعيانها في اسم الكفر وبعض أحكامه، وهذا التفريق مخالف لإجماع السلف في حق الطوائف التي اجتمعت على كفر، كنصرة القباب والقانون)[مجلة دابق، العدد السادس، ربيع الأول، 1436هـ، ص 20].
ويذكر تنظيم الدولة أن هذا التفريق بين الطائفة والأعيان يسبب مشكلات عملية مزعجة، حيث سيقود الجنود إلى التورع والاحتياط أثناء مقاتلة من حكم عليه التنظيم بالردة، كما يقول التنظيم في ذكر العراقيل غير المريحة الذي يسببها هذا القول:
(فإن المرء إذا كان يُقدّر وجود “مسلمين” في صفوف الطائفة، ويوسع لهم دائرة العذر ليشمل الجهل بأصل الدين، فسيضطر، من حيث يشعر أو لا يشعر، عاجلاً أو آجلاً، إلى أن يتورع ويحتاط، فلا يستهدف المرتدين خشية أن يقتل “مسلمين متأولين“)[مجلة دابق، العدد السادس، ربيع الأول، 1436هـ، ص 21].
وقد سبقت الإشارة إلى أن التنظيم يعتبر المسلمين الذين حكم عليهم بالردة كثيرون جداً، حتى قال عنهم كما في نص سابق (“فوالله لنسحبنهم ألفاً ثم ألفاً)، وعليه فإنه إذا وقع التفريق بين الطائفة والأعيان فسيترتب عليه هذه العقبة الكبيرة المتعبة بالنسبة له، وهي تورع واحتياط جنود التنظيم في مقاتلة من حكم عليهم التنظيم بالردة.
ومسألة التفريق بين الطائفة والأعيان وعدم التفريق بينهم ليس الإشكال فيها في أصل المسألة، فإن الأعيان يفارقون الطائفة تارة ويجامعونها تارة، وإنما الإشكال في تنزيل هذه القواعد على غير أهلها كما سيأتي الإشارة إليه.
وأما القاعدة الثانية في خطاب التنظيم فيما يتعلق بقواعد الكفر والإيمان، فهي اختيارهم للقول الفقهي الذي يقدم قتال المرتد على الكافر الأصلي، كما يقول التنظيم في أحد بياناته الرسمية مثلاً:
(وإنَّ الذي أمرنا بقتال الكافر الأصلي أمرنا بقتال المرتد، بل وقدَّم قتال المرتد) [أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: الآن الآن جاء القتال، مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، الدقيقة:35].
وليست الإشكالية طبعاً في أصل هذا القول الفقهي، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية (والصديق وسائر الصحابة بدؤوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب)[ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ص: 35/158]، وإنما الإشكال في أمرين: الأول تطبيق أحكام المرتدين على من لم تثبت ردته، بل على من هو من أولياء الله، والثاني الخلط بين تقديم قتال المرتدين على الكافر الأصلي الذي هو جهاد الطلب، وبين تقديم قتال المرتدين على الكافر الصائل الذي هو جهاد الدفع، الذي هو كما قال ابن تيمية (فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه)[ابن تيمية، الفتاوى الكبرى، ص:5/538]. فكثيراً ما رأيتهم يضعون القاعدة الأولى في الموضع الثاني، وهذا غلط.
على أية حال، هذان هما المفتاحان الرئيسان في حكم التنظيم بالردة واستباحة الدم وهما (الصحوات والبرلمانية)، وهاتان قاعدتان لهما تأثير في الخطاب النظري للتنظيم، وهما عدم التفريق بين الطائفة والأعيان وأن الطائفة إذا ارتدت انسحب الحكم على أعيانها، والثانية تقديم قتال المرتدين على قتال الكفار الأصليين، وسننتقل بعد هذه التأصيلات الكلية للتنظيم إلى دراسة بعض مواقفهم التطبيقية.
–إجمال النتائج:
بصورة مجملة فقد أظهرت نتائج الدراسة أنه بناءً على التأصيلات المركبة السابقة فإن تنظيم الدولة يعتقد استباحة دماء عامة المجاهدين في سبيل الله في كل الجبهات في العالم من غير فصيلهم لاعتقادهم أنهم وقعوا في نواقض متعددة من نواقض الإسلام، كما يعتقد التنظيم استباحة دماء عامة الحركات الدعوية الإسلامية في العالم الإسلامي التي ترى مشروعية الإصلاح السياسي بالعمل البرلماني، ويعتقد تنظيم الدولة استباحة دماء عامة علماء ودعاة المسلمين المعاصرين، ويعتقد هذا التنظيم أيضاً استباحة دماء العشائر السنية في العراق والشام الممتنعة عن طاعته بالشوكة، ويرى تنظيم الدولة أيضاً الحكم بردة واستباحة دماء عوام المسلمين العاملين في السلك العسكري في العالم الإسلامي، كما أظهرت الدراسة نتائج أخرى طريفة فيما يتعلق بطاعتهم لسلاطينهم وولاتهم وبعلاقة تنظيم الدولة بتنظيم القاعدة، وسأبتدئ في هذا الجزء بمسألة تكفير عوام المسلمين العاملين في السلك العسكري، مراعاة لتسلسل العرض، ثم سأتبعها في الجزء الثاني بعض بقية النتائج المشار لها آنفا.
–استباحة دماء عوام المسلمين العاملين في السلك العسكري في العالم الإسلامي:
كان شاباً لطيفاً حيياً التقيت به مرةً يتيمة في الرياض، وكانت له مراجعة قضائية، ويعرفه بعض المشتغلين بالشأن العام، ثم افتقدته، وبعد مدة وجدته يغرد من الشام باسمه الثلاثي الصريح، وناقشني أيضاً في بعض التغريدات، وبدأ يغرد في نصرة تنظيم الدولة والحط على مخالفها، وبدأت أفكاره في مسائل التكفير والدماء يشوبها تغيرات حثيثة وحادّة ومتفاقمة، ويغرد بها بكل صراحة، كان الذين يعرفونه في الرياض يراقبون المشهد مشدوهين، وفي تاريخ 11 ربيع الآخر 1435هـ (الموافق 12 فبراير 2014م) غرّد تغريدة نزلت علي كالصاعقة، وتيبست أطرافي وأنا أقرؤها، ومازالت كالطعنة النجلاء في فؤادي إلى هذه الساعة، غرّد يقول:
(اللهم تقبّل العييري والدندني والمقرن وإخوانهم.. والله إنني في أشد الشوق لأكمل مشوارهم في الجزيرة، وأنحر المرتدين العساكر من أقاربي وغيرهم..).
هذا نص تغريدته، نقلتها حتى بالنقط التي وضعها في النص..
منذ نشرها راسلني بعض الأصدقاء: (أقرأت تغريدة فلان؟ إلى أين وصل القوم؟! معقول وصلوا لهذا المستوى؟!)
صوّرت التغريدة، واحتفظت بها، وأخذت أقرؤها بين فينة وأخرى، وتغزوني التساؤلات.. يا ترى ما الذي يجري؟! وما تركت تفسيراً محتملاً إلا وحرثته..
هل من المعقول أن يكون التنظيم أقنعه أن من أعظم القربات والأعمال الصالحة أن يرجع للسعودية ويذبح رحمه وأقاربه العوام الذين يعملون في السلك العسكري؟!
ثم لاحظ كيف لم يقل أنه حزين ومضطر لذلك، بل هو كما يعبر “في أشد الشوق” لهذا الفعل..
ولعلك انتبهت إلى أنه لم يقل أنه سيقتل أو يطلق الرصاص أو يُفجِّر ونحوها، بل استخدم كلمة “أنحر“، والنحر في أدبيات التنظيم هو قطع العنق بالسكين تغليظاً.. يعني أنه في غاية الشوق لأن يمسك أقاربه ورحمه العسكر في السعودية ويقطع أعناقهم كما تُذبح الخراف..
لكن ما الذي فعله أقاربه ورحمه لكي ينحر رقابهم غير أنهم عملوا في السلك العسكري في السعودية؟! هل هذا سبب كافٍ؟! هل من الممكن أن يكون هذا مقصوده؟!
والحقيقة أنني حينذاك استبعدت جداً أن يكون تنظيم الدولة بلغ هذا المستوى، وقلت في نفسي خلاصة الأمر أن هذا الموقف لا يخرج من احتمالين، إما أن يكون موقفاً فردياً لهذا الشخص مرتبط بدوافع نفسية مثلاً، أو أن يكون سمع من التنظيم بعض قواعد التكفير المتوسعة وفهمها بصورة خاطئة..
وبينما كنت أقلب بيانات التنظيم وأقارنها ببعض المشاهد وإذا بي أرتطم بالمفاجأة، حيث وجدت تفسير ما وقع كله..
وجدت أن تنظيم الدولة كان قد صرّح في بيان رسمي له قبل هذه التغريدة ببضعة أشهر بعين ما كان يصرح به ذلك الجندي المسكين! وهو أن عوام المسلمين العاملين في السلك العسكري في العالم العربي والإسلامي كله جميعهم مرتدون خارجون عن الإسلام مستباحو الدم لأنهم يحمون الطاغوت ويتولونه.
جاء في البيان الرسمي لتنظيم الدولة ما يلي:
(لابد لنا أن نصدع بحقيقة مرة لطالما كتمها العلماء واكتفى بالتلميح لها الفقهاء ألا وهي: كفر الجيوش الحامية لأنظمة الطواغيت..، لابد لنا أن نصرح بهذه الحقيقة المُرّة ونصدع بها, ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة، إن جيوش الطواغيت من حكام ديار المسلمين هي بعمومها جيوش ردة وكفر، وإن القول اليوم بكفر هذه الجيوش وردتها وخروجها من الدين بل ووجوب قتالها لهوَ القول الذي لا يصح في دين الله خلافه) [أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: السلمية دين من؟!، مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، الدقيقة:15].
وربما لفت انتباه القارئ أن أبا محمد العدناني يؤكد في هذا البيان الرسمي أن هذا القول –أعني تكفير كل العسكريين في العالم الإسلامي– أجمع العلماء والفقهاء على عدم القول به وأنهم هم الذين سيظهرونه، ويؤكد أيضاً أن الأمر لا يقتصر على تكفير وردة كل الأعيان، بل والقتال واستباحة الدماء، كما ينبه إلى أن هذه المسألة لا تصل حتى إلى كونها مسألة اجتهادية يُقبل فيها الخلاف، بل هي في نظرهم مسألة قطعية أو كما يقول “لا يصح في دين الله خلافه“، فمن خالف في ردة واستباحة دماء كل العسكريين في العالم الإسلامي فقد انتهك مسألة قطعية من الشريعة .
ولاحظت في خطابات تنظيم الدولة أنهم أكثر حرصاً على إعلان ردة العسكريين في السعودية باعتبار أنهم يرونهم حماة لأغلظ حكومة مرتدة في نظرهم، ولا يقبلون الجدال في هذا، بل وهناك شيء من امتحان المخالف بهذا القول، كما يقول تنظيم الدولة في مجلة دابق مثلاً مُشِيداً بهذا القول: (آل سلول وجنودهم وضباطهم.. كفار بلا جدال)[مجلة دابق، العدد الخامس، محرم، 1436هـ، ص26].
حسناً، إذا كان العمل في القطاع العسكري في السعودية هو “ردة بلا جدال“، وأن هذا التكفير واستباحة الدم هو “القول الذي لا يصح في دين الله خلافه“، كما يعبر التنظيم، فما حكم من خالف في هذه المسألة واعتقد أن هؤلاء العسكريين من أهل لا إله إلا الله؟
الحقيقة أن التنظيم اختلف موقفه من المخالفين في هذه المسألة، لكنه في بعض المراحل التي مر بها اعتبر أن من يخالف في تكفير العسكريين في السعودية فهو مبتدع واقع في “بدعة الإرجاء“، ففي مجلة دابق نقل التنظيم شهادة لأحد منسوبيه ذكر فيها الأخطاء الإرجائية عند بعض المدارس القتالية وقال من ضمنها (تنظيم جهادي له توجّه إرجائي لِما كان يصدر عن بعض قيادته قديماً بخصوص بعض الحُكّام المرتدين، خاصةً آل سعود، وعساكرهم، والتوقف في ردتهم)[مجلة دابق، العدد السادس، ربيع الأول، 1436هـ، ص 40].
ثم علقت مجلة تنظيم الدولة “دابق” على هذا الموضع تعليقاً تأكيدياً باقتباس بعض الشواهد التي تعززه.
فهذا يعني حسب تنظيم الدولة أن من يخالف في ردة واستباحة دماء المنتسبين للسلك العسكري في السعودية فهو مبتدع مرجئ مخالف لعقيدة أهل السنة والجماعة بحسب رأيهم، وربما لاحظ القارئ أنهم ذكروا أنه ليس المخطئ المبتدع من حكم بإسلامهم فقط، بل من “توقف” فقط في كون العسكريين في السعودية مباحي الدم فهو مرجئ خارج عن مذهب أهل السنة عندهم.
ومن أكثر المشاهد التي لفتت انتباهي أنه اشتد إنكار تنظيم الدولة على د.أيمن الظواهري أمير تنظيم القاعدة، لأنه خالفهم في هذه المسألة، حيث يقول تنظيم الدولة في سياق إنكاره وتنديده بأقوال الظواهري:
(ولا يُكفِّر الظواهري من أنصار الطواغيت إلا الضباط المُعذِّبين للمسلمين في بعض فروع أمن الدولة، حيث قال: “ضباط أمن الدولة فرع مكافحة النشاط الديني، الذين يحققون في القضايا الإسلامية ويُعذّبون المسلمين أراهم كُفاراً على التعيين، فهم يعلمون عن الحركات الإسلامية أكثر مما يعرفه كثير من أعضائها عنها“)[مجلة دابق، العدد السادس، ربيع الأول، 1436هـ، ص19].
ولكن هل هذا الحكم بالردة واستباحة الدم لعوام المسلمين العاملين في السلك العسكري في السعودية هو مجرد موقف نظري لتنظيم الدولة؟ أو مجرد كلام إعلامي للمغايظة والمشاحنة؟
الجواب لا، بل إن زعيم تنظيم الدولة ألقى خطاباً، نُشِر نصه في مجلتهم الرسمية، ودعا فيه أتباعه في السعودية إلى أن يُسموا بالله ويبدؤوا في حز أعناق العسكريين ومنسوبي الأمن في السعودية، كما تنقل المجلة نص خطاب زعيمهم:
(قال الخليفة –حفظه الله– في خطابه: فيا أبناء الحرمين، يا أهل التوحيد، يا أهل الولاء والبراء، إنما عندكم رأس الأفعى ومعقل الداء، ألا فلتسلوا سيوفكم، ولتكسروا أغمادكم، فلا أمن لآل سلول وجنودهم)[مجلة دابق، العدد الخامس، محرم، 1436هـ، ص26].
قبل أن نواصل الفحص والعرض أحب أن أنبه أنني لم أكن أتهكم في نقل هذا النص واستفتاحه، بل هكذا هم يقولون فعلاً “قال الخليفة حفظه الله“، فهم يتصورون بكل جدية أن هذا خليفة وأن خطابه هو خطاب الخلفاء الراشدين.
والمراد أن زعيمهم البغدادي يستحث أبناء الحرمين على بدء العمليات ويستبطئهم في قتل العسكر السعوديين.
والحقيقة أنني حين قرأت لأول مرة بيان تنظيم الدولة في ردة الجيوش العربية كلها خطر في بالي تساؤل: هل ذكرهم لمصطلح “الجيش” يقصدون به المصطلح الفني بمحدداته المعاصرة، بمعنى أن من كان في القوات العسكرية والأمنية الأخرى خلاف الجيش لا يدخلون في هذا التكفير والردة؟ أم أن الحكم يدور عندهم على العلة التي ذكرها التنظيم وهي كما يُعبِّر “حماية أنظمة الطواغيت“، وبالتالي فكل منسوبي القطاعات العسكرية والأمنية داخلون في هذا الحكم بالتكفير والردة واستباحة الدم؟
والواقع أنني وجدت في نصوصهم ما يرفع هذا الاحتمال، وتبيّن أن هذا الحكم بالردة واستباحة الدم يشمل كل القطاعات العسكرية والأمنية في الدول المسلمة المعاصرة، ولا يقتصر على الجيش بمعناه الفني الخاص، باعتبار وجود العلة ذاتها، وكمثال على ذلك يقول التنظيم في بيان رسمي له يدعو أنصاره ويستحثهم:
(فهيا أيها الموحد، لا تفوتنّك هذه المعركة أينما كنت، عليك بجنود وأنصار الطواغيت وعسكرهم، وشُرَطِهم، وعناصر أمنهم، ومباحثهم) [أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: إن ربك لبالمرصاد، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: 35].
فينبّه التنظيم أن الحكم بالردة واستباحة الدم لا يقتصر على الجيش فقط بمعناه الفني الخاص، بل الشرطة وكل عناصر الأمن في الدول المسلمة المعاصرة اليوم.
وحين رأيت هذا الشمول في الحكم بالردة واستباحة الدم لكل عوام المسلمين العاملين في المؤسسات العسكرية والأمنية أخذت هذه المؤسسات تمر أمام ذهني، وأتساءل هل تأملوا معنى قولهم؟ هل تدبروا نتيجة هذا التأصيل الذي يتبنونه؟ فكلامهم يعني أن جميع الأفراد والضباط في السعودية العاملين في القوات البرية والقوات البحرية والقوات الجوية والحرس الوطني والشرطة وأمن الطرق وحرس الحدود الخ مرتدون مستباحو الدم.
بل إنني تذكرت أجهزة أمنية تابعة لوزارة الداخلية أعمالها من أعظم ما يتفق الناس على شرفها، مثل: المديرية العامة لمكافحة المخدرات، والقوات الخاصة لأمن الحج والعمرة، والمديرية العامة للدفاع المدني، ونحوها. فهذه الأجهزة الأمنية الفاضلة التابعة لوزارة الداخلية وأمثالها ينطبق عليها التكفير الشامل واستباحة الدم الذي يعلنه تنظيم الدولة.
وبينما كنت أتساءل مثل هذه الأسئلة في مدى هذا الشمول وجدت في أحد بيانات التنظيم الرسمية أخباراً يذكرونها يفتخرون فيها بأنهم قتلوا أعياناً وكباراً في العراق في 34 عملية ذكروا بعض تفاصيلها، وبعضهم يصفونه أنه “صفوي” وبعضهم يصفونه أنه “مرتد“، وهذا وصفان يتكرران سوياً في أدبياتهم، وقولهم “صفوي” أي أنه من الرافضة، وقولهم “مرتد” أي أنه من أهل السنة المناوئين لهم، وذكروا في أثناء حكايتهم لهذه العمليات بعضَ من قتلوهم ووصفوهم بأنهم يعملون في الدفاع المدني، كما يقول التنظيم في بيانه:
(وكان لأبطال الكواتم الحظ الأوفر من العمليات، حيث نفّذوا 34 عمليةً كتمت أنفاس العشرات، كان من بينهم المرتد المجرم “مصطفى أحمد” مدير مكتب المجرم وزير الثقافة ووزير الدفاع..، ومنهم المدير العام للدفاع المدني الصفوي لجانب الكرخ وهو برتبة لواء، مع اثنين من مساعديه من كبار الضباط أحدهما برتبة عميد)[أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: الاقتحامات أفجع، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: 15]
فتوقفت أمام قوله أن اثنين من مساعديه يعملون في “الدفاع المدني” تم قتلهم، فهل الوصف الموجِب لقتلهم هو كونهم يعملون في “الدفاع المدني“؟ أي أن مجرد التلبس بوصف “الدفاع المدني” في أي دولة مسلمة اليوم هو وصف موجب للردة واستباحة الدم باعتبار كونها مؤسسة أمنية تابعة للطاغوت؟ أم أن هناك سبباً آخر لم يفصح عنه؟
بل إنني أخذني التفكير والتأمل للبحث عن صورة لا يختلف أحد في شرعيتها وعظم أجرها من العمل العسكري في السعودية لأتأمل نتائج وتطبيقات هذا القول الذي يعلنه تنظيم الدولة، فإن التطبيقات هي التي تكشف عملياً خلل الكليات، فتذكرت إخواننا العسكريين السعوديين الذين يجاهدون الحوثيين المعتدين الظلمة، وكتبت ملحوظة في مسودة البحث بأنني سأذكر هذه الصورة لأبين شناعة القول بتكفير كل العاملين في السلك العسكري وأن من مآلاته ونتائجه أنه يؤول لتكفير المجاهد العسكري السعودي الذي يجاهد الحوثيين المعتدين، وتنظيم الدولة يعتبر الحوثيين من أكثر الرافضة شراً ومن أوجب الجهاد جهادهم، ولكن للأسف، وإذا بتنظيم الدولة نفسه يسبقني إلى هذه الصورة ذاتها، ويعلن أنها من أعظم صور الردة! حتى جهاد الحوثيين هو من الردة! يقول التنظيم في مجلته الرسمية دابق:
(كما أنه لا يجوز أن يقاتل الحوثيين الرافضة تحت قيادة آل سلول، وإذا قاتل تحت قيادة الطاغوت دفاعاً عن نظامه الكفري فإنه يرتد عن الإسلام)[مجلة دابق، العدد التاسع، شعبان، 1436هـ، ص7].
وكنا سبق أن أشرنا إلى أن تنظيم الدولة حفيٌ بقاعدتين يطبقهما في مسألة التعامل مع المرتدين في نظره، وهما: عدم التفريق بين الطائفة والأعيان، وتقديم قتال المرتد على الكافر الأصلي.
والحقيقة أن هاتين القاعدتين لم يكتفِ بإعلانهما نظرياً فقط، بل نصّ أيضاً على تفعيلهما وتطبيقهما في ذات هذه المسألة، أعني مسألة تكفير واستباحة دم عوام المسلمين العاملين في المؤسسات العسكرية والأمنية، وسأوضح ذلك:
كانت بعض الزعامات المنتسبة للمدارس القتالية المعاصرة ترى التفريق بين كفر الطائفة وكفر الأعيان، فتراها تقول مثلاً: (نحن نُكفِّر الدولة الفلانية كطائفة، لكن لا نسحب هذا الحكم على جميع أفراد وأعيان النظام وعسكره)، فشنع عليهم تنظيم الدولة هذا القول، فجاء البعض وحاول تقريب وجهات النظر بينهم وقال إن القولين ليس بينهما فرق عملي على الحقيقة فيجب أن لا نجعل هذا الاختلاف يشق الصف الجهادي، ونحو هذا الكلام، فرفض تنظيم الدولة ذلك ونشر بحثاً في مجلة دابق يؤكد فيه خطورة التفريق بين الطائفة والأعيان وأن له آثاراً عملية وليس صحيحاً أنه لا فرق عملي بين القولين، وقد سبق نقل كلام التنظيم في قولهم (هذا التفريق مخالف لإجماع السلف في حق الطوائف التي اجتمعت على كفر، كنصرة القباب والقانون)[مجلة دابق، العدد السادس، ربيع الأول، 1436هـ، ص 20].
ثم ذكر التنظيم هذه العقيدة التي يخطّؤها، وأشار إلى أن أصحابها كانوا لا يفرقون بين الطائفة والأعيان في زمن سابق، ثم صاروا يفرقون، حيث يقول التنظيم:
(فهذه العقيدة، التي كانت ابتداءً لا ترى فرقاً بين تكفير نوع الطائفة وتكفير أعيانها، ظهرت آثارها عملياً في سياسة الحرب، لا كما يظن بعض المغفلين..، بل الحقيقة أنهم يتورعون عن قتل من يُخشى أنهم من المسلمين: عسكر الطاغوت ورافضة المجوس)[مجلة دابق، العدد السادس، ربيع الأول، 1436هـ، ص21]
فتنظيم الدولة يؤكد أن هناك فرقاً بين القولين، وأن هذا القول بالتفريق بين الطائفة والأعيان يؤدي للأسف الشديد إلى التورع في مقاتلة عساكر الدول المسلمة لأنهم يخشون أن بينهم مسلمين، بينما القول الذي يعتقده التنظيم أنه إذا كفر النظام السياسي كفر كل أعيانه وأفراده من العاملين في مؤسساته العسكرية والأمنية.
وأما القاعدة الثانية وهي “تقديم قتال المرتدين على الكافر الأصلي” فإن التنظيم لم يدع لأفرادهم فهمها وتطبيقها من لدن أنفسهم، بل نص هو أيضاً عليها في هذا الموضع، فقد ألقى زعيم التنظيم نفسه أبو بكر البغدادي خطاباً دعا فيه أتباعه إلى أن قتل عوام المسلمين العاملين في المؤسسات العسكرية والأمنية في السعودية أولى وأهم من مقاتلة الأمريكان والغربيين، وقد نقلت مجلتهم الرسمية نص خطاب زعيمهم وفيه:
(قال الخليفة إبراهيم: .. ثم عليكم بآل سلول وجنودهم قبل الصليبيين وقواعدهم) [مجلة دابق، العدد الخامس، محرم، 1436هـ، ص27].
وهذه المسألة من المسائل التي يُنكر فيها على المخالف عندهم ويُشنع عليه، كما قالوا في الإنكار والتشنيع على الظواهري، وذكروا أن عدم تكفيره لجميع العسكريين يفضي للقول بأن نصرة الطاغوت ليست كفر، حيث يقولون بشيء من التهكم (على طريقة الظواهري: تعذيب المسلمين وإعانة الصليبيين كفر لا يُعذر، أما عبادة الأموات ونصرة الطاغوت فكفر وجهل يُعذر، وبسبب هذه الانحرافات..)[مجلة دابق، العدد السادس، ربيع الأول، 1436هـ، ص21].
وهل الأمر في التكفير واستباحة الدم مقتصر على هذه الشريحة، أعني شريحة عوام المسلمين العاملين في المؤسسات العسكرية والأمنية؟ لا، طبعاً، وإنما بدأت بها لدواعي تسلسل العرض، بل هناك شريحة يعتقد تنظيم الدولة أنها أغلظ ردة من العسكريين والأمنيين، وهي في نظره المؤسسات الدينية التي ينشؤها الطاغوت الحاكم بغير ما أنزل الله، وسبب كونها أغلظ ردة عندهم أن عوام المسلمين العاملين في المؤسسات العسكرية والأمنية قد يعرض لهم الجهل والتقليد والتأويل وخصوصاً مع غلبة الجهل بآثار الرسالة، ومع ذلك لم يعذر التنظيم أعيانهم، بل حكم عليهم بالردة جميعاً، فكيف بالعلماء والقضاة والدعاة في المؤسسات الدينية والقضائية والفتوية والعدلية وهيئات الفتوى في الحكومات الطاغوتية، فإن عارض الجهل أشد ارتفاعاً عنهم.
ولذلك فإن التنظيم إذا عرض للعلماء العاملين في السعودية يقرنهم بالجنود والعسكر ويجعلهم كلهم في مساق المرتدين وأعوان الطواغيت المرتدين، وذكرهم بهذه الصورة وتكييفهم بهذا التكييف غزير جداً في أدبيات التنظيم، وسأنقل بعض النماذج من بيانات رسمية مختلفة للتنظيم، ومنها قولهم:
(حكام العرب المرتدين، وجيوشهم وسحرتهم من علماء السلاطين)[أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: قل موتوا بغيظكم، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: 6]
(والمرتدون من بني جلدتنا بكل أطيافهم وعلماء سوئهم) [أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: لن يضروكم إلا أذى، مؤسسة الفرقان، الدقيقة:6]
(هيئات كبار علماء السلاطين أنصار الطواغيت) [أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: إن ربك لبالمرصاد، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: 23 ]
(نسأل الله تعالى أن يهلك كلاب اليهود والصليبيين آل سلول، وأعوانهم وأنصارهم من علماء السوء) [أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: قل موتوا بغيظكم، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: 9 ]
(أنصار الطواغيت من علماء السوء أو فقهائهم الرسميين) [أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: إن دولة الإسلام باقية، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: 21 ]
وأمثال هذه التكييفات للعلماء في الحرمين وأنهم واقعون في الردة عن الإسلام كما أن العسكريين مرتدون عن الإسلام باعتبار أنهم كلهم من أنصار الطاغوت الذي يحكم بغير ما أنزل الله كثيرة جداً، وإنما المراد التمثيل فقط.
حسناً، إذا كانت المؤسسات الدينية التي ينشؤها الطاغوت الحاكم بغير ما أنزل الله هي مؤسسات ردة وكفر، فإنه طبقاً لذلك فإن التنظيم يعتقد أن هيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة للإفتاء، والرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، وزارة الشؤون الإسلامية، ووزارة العدل، ووزارة الحج؛ كلها –حسب فتوى تنظيم الدولة– مؤسسات ردة وكفر، وقد قرر التنظيم مراراً خطأ التفريق بين الطائفة والأعيان، فإذا كانت هذه المؤسسات مؤسسات ردة وكفر فهذا يعني أن كل أفرادها ومنسوبيها، من الرجال والنساء، مرتدون كفار خارجون عن الإسلام مباحو الدم والمال.
وكنت سبق أن أشرت في مطلع هذه الورقة إلى أن الغرض الأساس من هذه الدراسة ليس الرد والتفنيد لآحاد المقولات، وإنما الفهم والتصور الجُمْلي من خلال الوثائق الرسمية، ولأجل ذلك ساقتني التساؤلات أمام هذه العقيدة لتنظيم الدولة وقلت في نفسي: كيف يا ترى سيطبقون هذه العقيدة فعلياً في التكفير واستباحة الدماء؟
وذهبت لبعض المواقع الإحصائية الأجنبية ورأيت فيها أعدداً يذكرونها لمنسوبي القطاعات العسكرية والأمنية في السعودية ولا أدري عن دقتها، لكن لنفترض تقريبياً أن عدد الموظفين والعاملين في القطاعات العسكرية والأمنية التابعة لوزارة الدفاع ووزارة الحرس الوطني ووزارة الداخلية يبلغ عددهم تقريباً مليون شخص، فهل سيطبق على هؤلاء المليون أحكام المرتدين؟ هل يستوعب من يقول ذلك ما مؤدى هذا الكلام؟ هذا يعني أن التنظيم يريد إسالة شوارع السعودية بالدماء والأشلاء، وخصوصاً أنهم يقولون لم نجد أشهى من دماء المرتدين ومؤانسة أشلائهم..
الذي أكاد أجزم به –إن شاء الله– أن أفراد وتابعي تنظيم الدولة لم يستوعبوا جيداً حقيقة القول الذي تدعوهم إليه زعاماتهم، وسأحاول إيضاح ذلك، فالردة والمرتدون المحاربون في الفقه الإسلامي لهم أحكام مغلظة أشد من الكفر الأصلي، ومنها:
قتل المرتد، وعدم قبول الفداء عنه، وإذا كان المرتد في دار حرب فلكل أحد قتله وأخذ ماله ولا يتعين أن يقتل بإذن الإمام، ولا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يَرِث هو أحداً من أقاربه، ولا يَرِثه أقاربه المسلمون، وأمواله وممتلكاته فيء للمسلمين، ولا تؤكل ذبيحته بل هي ميتة، والمرتد لا يصح نكاحه ولا يُقر عليه، وإن كان المرتد ولياً وزوج موليته فالزواج أيضاً لا يصح لبطلان الولاية بالردة، وإذا أُجري على البلد حكم الردة جاز قتل المقدور عليه منهم واتباع مدبرهم والإجهاز على جريحهم، ونحوها من الأحكام المغلظة.
فيا أخي المجاهد الصادق، ويا أخي المناصر الصادق، ممن مازلت على صلة بتنظيم الدولة، هل تدبرت يوماً أن تنظيم الدولة يدعوك ويستحثك على تنزيل هذه الأحكام على المسلمين في بلدك السعودية؟ هل تأملت حقيقة ذلك؟
يا أخي المجاهد الصادق، ويا أخي المناصر الصادق، لا شك أن لك أهلين وأقارب ورحم وأصدقاء وجيران فضلاء هم في سويداء قلبك، وتعرف من فضلهم وحب الخير في قلوبهم ما لا ينمحي من ذاكرتك، وعشت معهم أياماً سقاها الله رأيت فيهم من المروءة والشهامة ما تنحني له جباه الدنيا، وكثير منهم في السعودية يعمل في القطاعات العسكرية أو الشرطة أو في أحد المؤسسات الدينية، أترضى بالله عليك أن يأتي مقاتلو التنظيم ويسحبونهم برؤوسهم إلى الشوارع يتخوضون في دمائهم وينهبوا أموالهم وهم يهتفون “باقية..باقية..”؟ أترضى ديانتك ورجولتك بذلك على أهليك وأقاربك؟ فإن قلت لا أرضى، وهو المظنون فيك إن شاء الله، فانظر بالله عليك أين وصل الانحراف في العقيدة والدماء لدى هذا التنظيم.
بل دعنا ننتقل إلى مسألة أدق وأكثر حساسية، فحين قام تنظيم الدولة بسبي النساء الإيزيديات، وأثيرت المسألة في الإعلام بكثير من التشنيع، قام التنظيم بإعداد بحث فقهي في الموضوع بعنوان (إحياء الرق) ونشره في مجلته الرسمية دابق وجاء فيه (فإنه يجوز سبي نسائهم بخلاف نساء المرتدين الذين قال أغلب الفقهاء إنه لا يجوز سبيهن) ثم علقوا على هذا الموضع فقالوا:
(إن استرقاق النساء المرتدات المنتميات لفرق مرتدة كالرافضة والنصيرية..، من الأمور التي اختلف فيها الفقهاء، أغلب الفقهاء قالوا إن نساءهم لا يُسبين ولكن يُسْتتبن..، لكن بعض العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية والأحناف قالوا: إنهن يُسبين، قياساً إلى أفعال الصحابة في حروب الردة، حيث سبوا النساء المرتدات، وهذا الرأي تدعمه الأدلة الظاهرة أيضاً)[مجلة دابق، العدد الرابع، ذو الحجة، 1435هـ، ص15].
ففي هذا التحليل الفقهي للمسألة يذكر تنظيم الدولة أن “سبي نساء المرتدين” هو الذي فعله الصحابة في حروب الردة وهو اختيار ابن تيمية وهو الذي تدعمه الأدلة الظاهرة وهو مذهب الحنفية.
دعنا أولاً نوضح هذه الإشارات الفقهية التي ذكروها، فأما قولهم أن سبي نساء المرتدين هو مذهب الحنفية فقد قال الإمام القاضي أبو يوسف (ت182هـ) صاحب أبي حنيفة في كتابه الخراج (فصلٌ: ولو أن المرتدين منعوا الدار وحاربوا سُبِي نساؤهم وذراريهم، وأُجبِروا على الإسلام، كما سبى أبو بكر ذراري من ارتد من العرب من بني حنيفة وغيرهم، وكما سبى علي بن أبي طالب بني ناجية موافقة لأبي بكر)[أبو يوسف، الخراج، دار المعرفة، ص67].
ويلاحظ القارئ التمييز في نص أبي يوسف بين حكم المرتدة المعينة وحكم نساء الطائفة المرتدة المُحارِبة، وفي المسألة تفاصيل وقيود أخرى عند الحنفية كلحوق المعينة بدار الحرب على أصلهم في تبعية السبي للدار، وليس هذا موضع تفصيلها، وهي مذكورة في المبسوط للسرخسي (طبعة دار إحياء التراث،ص10/106) وبدائع الصنائع للكاساني (طبعة دار إحياء التراث، ص6/120) وفتح القدير لابن الهمام (طبعة دار إحياء التراث، ص5/293) وغيرها من أمهات كتب الفروع الحنفية.
وأما قولهم أن هذا اختيار ابن تيمية فقد قال أبو العباس ابن تيمية حاكياً الخلاف ومرجّحاً:
(تنازع العلماء في استرقاق المرتدة، فطائفة تقول إنها تسترق، كقول أبي حنيفة، وطائفة تقول لا تسترق، كقول الشافعي وأحمد، والمعروف عن الصحابة هو الأول، وأنه تسترق منه المرتدات نساء المرتدين؛ فإن الحنفية التي تسرى بها علي بن أبي طالب أم ابنه محمد بن الحنفية من سبي بني حنيفة المرتدين الذين قاتلهم أبو بكر الصديق)[ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ص28/554].
وكرر ابن تيمية في مواضع من كتبه ترجيح هذا القول وأن سبي نساء المرتدين هو من “سيرة الصديق” ومن معه من الصحابة في “قتال المرتدين” التي هي الأصل في الباب عندهم (انظر مثلاً: مجموع الفتاوى، ص35/162؛ منهاج السنة، ص8/324) .
والاعتبار الذي جعل هؤلاء يلحقون نساء المرتدين بهم أن الطائفة الممتنعة لها حكم واحد لا يفرق بين الطائفة والأعيان، وأن نساءهم موالون لهم لسن مكرهات، والتابع له حكم الأصل، وأن الصحابة لم يستفصلوا في كل امرأة بل عاملوهم معاملة الطائفة، ولذلك سماهم التنظيم “نساء المرتدين” وجعل الخلاف الفقهي متنزلاً عليهن.
حسناً، دعنا نكرر هنا تسجيل الملاحظة السابقة، وهي أن تنظيم الدولة يذكر أن القول باسترقاق نساء المرتدين فيه ثلاثة أمور: هو الذي تدل عليه الأدلة الظاهرة، وهو فعل الصحابة في حروب الردة، وهو اختيار ابن تيمية، والحقيقة أن أي شخص له أدنى خبرة بمنهج الترجيح في التيار المعاصر المنتسب للسلفية يدرك أن هذه الحيثيات المذكورة هي مرجحات حاسمة في مسائل الخلاف الفقهي، فاجتماع الأدلة الظاهرة وعمل الصحابة وتعززها بقول شيخ المحققين أبو العباس ابن تيمية يجعل المسألة ملفاً منتهياً مختوماً بختم الترجيح.
فإذا كان الأمر كذلك، وإذا كان هذا هو تصور تنظيم الدولة عن المسألة، فلماذا لم يُظهِر إلى الآن سبي نساء المرتدين الذين حكم عليهم بالردة؟
الحقيقة أنني تأملت هذا الموقف، وقارنت المعطيات التي قدّموها بمسلكهم العملي، وتبيّن لي أن تنظيم الدولة لا يرتاب أن العسكريين في السعودية وعلماءها ومشايخها العاملين في مؤسساتها الرسمية طائفة ردة ممتنعة بشوكة، بل ذكروا أنه القول الذي لا يصح في دين الله خلافه، كما أن تنظيم الدولة لا يشك البتة أن القول الراجح في المسألة هو جواز سبي نساء المرتدين لأنه كما يرون هو ظاهر الأدلة وعمل الصحابة وترجيح ابن تيمية، ولكنهم أحجموا عن إعلان وممارسة هذا الموقف لأنه غلب على ظنهم أن مقاتليهم من الجزيرة والشريحة الجهادية السلفية محل الاستقطاب لن تستوعب عقولهم هذا الموقف، وسيكون هذا الموقف في غاية الشناعة عليهم وسينفّر عنهم معظم الشريحة الشبابية الجهادية في السعودية، وسيكون فتنة لمقاتليهم.
لكن دعنا نذهب بهذا القول لنهاياته المنطقية، وافترض أن تنظيم الدولة عزم على مواصلة الصدع بالحق وإعلان تحكيم الشريعة وعمل الصحابة والأدلة الظاهرة وترك مداهنة مقاتليه والإعلام طبقاً لتصوراته، وأعلن فعلاً بدء الحملة لسبي نساء العسكريين ونساء العلماء والمشايخ في السعودية باعتبار نساء المرتدين المحاربين الممتنعين بشوكة، كما أنه سبق أن أعلن مقاتلتهم واستباح دماءهم، كما ينقل التنظيم (قال الخليفة –حفظه الله– في خطابه: فيا أبناء الحرمين، يا أهل التوحيد، يا أهل الولاء والبراء، إنما عندكم رأس الأفعى ومعقل الداء، ألا فلتسلوا سيوفكم، ولتكسروا أغمادكم، فلا أمن لآل سلول وجنودهم)[مجلة دابق، العدد الخامس، محرم، 1436هـ، ص26].
وقوله أيضاً (قال الخليفة إبراهيم: .. ثم عليكم بآل سلول وجنودهم قبل الصليبيين وقواعدهم) [مجلة دابق، العدد الخامس، محرم، 1436هـ، ص27].
فما هو موقفك يا أخي المجاهد الصادق والمناصر الصادق الذي مازال على علاقة بالتنظيم؟ هؤلاء نساء بلدك شعر وجهك تؤدي قواعد التنظيم إلى جواز سبيهن، أترضى أن ترى قريباتك وبنات عمك يطؤهن مقاتلو التنظيم وزعماؤه؟ لا أشك أنك تتمنى الموت قبل أن ترى هذا المشهد، فكل من كان بين جنبيه ذرة رجولة لا يستطيع تصور هذا فضلاً عن أن يتقبله.
حسناً، إذا كنت ستنفجر غضباً لمجرد سماعك هذا القول فقط، وهو المظنون فيك إن شاء الله، فانظر بالله عليك كيف أن القول بردة العسكريين والشرطة والعلماء والمؤسسات الدينية الرسمية يؤدي إلى هذه النتائج الوخيمة على أهلك ورحمك وذويك ومن يمور قلبك بأعطر الذكرى معهم.
بل دعني أُذَكّرُك بمشهد آخر، أتتذكر حين كنت في السعودية وكنا سوياً، ومازلنا، تتفطر أكبادنا لملف الموقوفين المعلق، وكيف أن الآلاف من إخواننا موقوفون دون محاكمة شرعية بضماناتها الكاملة، وكنا نتألم أن عشرات من النسوة صرن أيضاً يتم إيقافهن بلا محاكمة شرعية، أتتذكر تلك الأيام؟ أتتذكر حرقتك على أهل بلدك؟ فانظر الآن حالك، في بضعة أشهر من انخراطك في هذا التنظيم صرت تتدين لله بالتلهف لسفك دماء مئات الآلاف من أهل بلدك، وترى أنهم تنزل عليهم أحكام المرتدين والتي منها جواز سبي نسائهم ووطئهن!
يا الله .. كنت تتحرق لاعتقال آلاف ثم صرت تتشوف لحز أعناق مئات الآلاف.. وكنت تتألم من اعتقال عشرات من النساء وصرت الآن تتفهم سبيهن وانتهاك أعراضهن!
بالله عليك أما يستحق هذا الانقلاب وقفة مراجعة وتوبة عاجلة؟ دعك مني وتقصيري، وابتعد عن ضغط أصحابك في التنظيم الذين يظهرون لك المكابرة على الباطل في صورة الثبات على الحق، وتذكر ديانتك ورجولتك ويوماً ستقف فيه وحيداً في عرصات يوم القيامة.. {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} .
وقد يقول قائل لكن تنظيم الدولة وإن كان قطع بردة واستباحة دماء وأموال عوام المسلمين العاملين في المؤسسات العسكرية والأمنية في السعودية، والمشايخ وطلاب العلم العاملين في المؤسسات الشرعية الرسمية، باعتبار أنهم كلهم يعملون في مؤسسات طاغوتية، تحامي عن الطاغوت وتفتي له، إلا أنهم لم يعلنوا إلى الآن تنفيذهم لسبي نساء المرتدين، فهم أعلنوا فقط استباحة دماء وأموال هذه القطاعات في السعودية؟
فالجواب، حسناً، هب أنهم لم يعلنوا إلى الآن ذلك، ولم يلمّحوا له، فلنتأمل صورة أخرى تطبيقية للمسألة: ما رأيك يا أخي المجاهد الصادق والمناصر الصادق المنتسب لتنظيم الدولة لو جاء مجموعة شباب تشربوا فتاوى التنظيم في الحكم بردة واستباحة دماء وأموال العسكريين والعلماء في السعودية، وأنهم طائفة ردة ممتنعة بشوكة، وتفاعلوا مع دعوة زعماء التنظيم لبدء العمليات في السعودية، وقرؤوا البحث الذي نشره التنظيم في أن سبي نساء المرتدين هو الذي تدعمه الأدلة الظاهرة وعمل الصحابة واختيار ابن تيمية، فنظموا غزوة مباغتة على الإسكان العسكري، أو سكن الأفراد والضباط في المدن العسكرية الضخمة المنتشرة في أنحاء المملكة، وبدؤوا يختطفون بضع فتيات وبنات ويهربون بهن إلى مخبأ لهم، ويقولون هؤلاء سبايا في أرض الحرب وهؤلاء سبايا نساء المرتدين، وفي هؤلاء النساء والفتيات رحمك وقرابتك وقبيلتك وبنات بلدك وشرفك، بالله عليك: ما هي حجتك على هؤلاء الشباب؟ هل سترى أن عملهم مشروع ومثابون عليه؟ أم هل سترى أن عملهم هذا مسألة اجتهادية سائغة لا ينبغي الإنكار عليها حتى لو خالفناها؟ لا قطعاً، بل ستغلي احتداماً وغيظاً بلا ريب، فهذا هو المظنون في ديانتك ورجولتك، إذن ما هو جوابك عليهم؟ كيف ستحتج عليهم؟
إن قلت لهم: هؤلاء العسكريين في هذه الإسكانات العسكرية ليسوا مرتدين وليسوا طائفة ممتنعة، فسيقولون لك هذا عين بدعة الإرجاء بل كفرهم كما قال التنظيم “هو القول الذي لا يصح في دين الله خلافه“. وإن قلت لهم: أُسلّم لكم أنهم مرتدون، لكن لا يجوز سبي نساء المرتدين فسيقولون لك خالفت الأدلة الظاهرة وعمل الصحابة واختيار المحققين كما قرر ذلك تنظيم الدولة في بحثه. وإن قلت لهم: أسلم لكم أن هؤلاء مرتدين، وأسلم لكم أن سبي نساء المرتدين يجوز، لكن زعماء التنظيم لم يأمرونا بذلك بعد فسيقولون لك: هذا تعطيل للحكم بالشريعة والأدلة الظاهرة وعمل الصحابة ونحن لا نرضى بتعطيل الشريعة، وإذا كان التنظيم لا يريد تطبيق الشريعة خجلاً من تشنيع الناس فنحن سنطبقها.
أرأيت يا أخي المجاهد ويا أخي المناصر كيف ستؤول الأمور؟ أرأيت كيف ستنقطع حجتك أمام هذه الممارسات؟ أتدري ما سبب ذلك؟ سبب ذلك كله أن عامة المنتسبين لتنظيم الدولة استخفوا جداً بإطلاق كلمة “الردة“، ولم يدركوا أبعادها وأحكامها الفقهية المغلظة، وظنوها مجرد سلاح عابر في وجه المنافس السياسي.
بل إن المجاهد والمناصر العاقل الحصيف إذا رأى هذه الأحكام التي يطلقها التنظيم أدرك فوراً أنه لم يكن وراءها أصلاً تحقيق علمي وتحرير للأدلة والواقع وتدين وتقوى وتورع في النظر العلمي، ومآلات الأحكام ومصائرها وآثارها، بقدر ما هي فتاوى كانت تدفعها قيادات عسكرية تبحث عن الأنكى في لحظة خصومة شديدة معينة، فتُقعّد القواعد الكبرى الخطرة لأجل التشفي في موقف معين دون إدراك مقتضياتها ولوازمها، ثم يأتي أقوام يحسنون الظن فيأخذونها باعتبارها أصولاً شرعية محررة أنتجها الصدع بالحق.
أتدري لماذا لم أكن متحمساً لمناقشة آحاد هذه المقولات، بقدر ما كنت مهتماً بعرض الصورة الكلية والإجمالية والمركبة لهذه المقولات وجمعها في سياق واحد؟ لأن المحدثات شديدة الانحراف يكفي مجرد تصورها لإبطالها عند العقلاء، بل إنني مازلت أجزم أن كثيراً من الشباب المجاهد والمناصر المنتسب لهذا التنظيم ما تصور حقيقة مقالات هذا التنظيم في التكفير والدماء والأموال والأعراض، ولو تصورها حق تصورها لنفض ثوبه منها بإذن الله، وهذا كثير في المحدثات شديدة الزيغ، ومن أكثر من نبه عليها أبو العباس ابن تيمية، وبيّن الآثار المترتبة على فهم “حقيقة القول” عند الأتباع، فأوضح ابن تيمية أن كثيراً من مقلدي أهل الضلال لم يفهموا حقيقة قولهم وهذا هو سبب التقليد كما يقول (وقلدهم في ذلك من لم يفهم حقيقة قولهم، ولوازمه، ولم يتصوره تصوراً تاماً)[مجموع الفتاوى:ص5/334]. وقال أيضاً (فإذا كانوا لا يفهمون حقيقة قولهم سلموا إليهم ما يقولونه، وظنوا أن هذا من جنس كلام أكابر أولياء الله،)[درء التعارض:ص6/157]
وتبعاً لذلك فإن حسن التصور لـ“حقيقة القول” ولوازمه كثيراً ما يكفي عن بيان الفساد كما قال ابن تيمية (اعلم أن تصور مذهب هؤلاء كاف في بيان فساده، ولا يحتاج مع حسن التصور إلى دليل آخر، وإنما تقع الشبهة لأن أكثر الناس لا يفهمون حقيقة قولهم)[مجموع الفتاوى:ص2/138].
وسبب الاهتداء فور تصور حقيقة القول هو إدراك التناقض بين الشريعة وبين المذهب الضال كما قال ابن تيمية (كل من فهم حقيقة قولهم وحقيقة ما جاءت به الرسل علم مناقضتهم لهم)[الصفدية:ص2/227].
ويجب أن يتنبه الشاب إلى أن هذه المذاهب الضالة إذا رأت الشاب البسيط الذي لا يدرك حقيقة قولهم تلهفت نفوسهم لاستقطابه كما قال ابن تيمية (وأئمتهم إذا رأوا من لم يفهم حقيقة قولهم طمعوا فيه)[مجموع الفتاوى:ص2/379].
وقد رأيت بعض الفضلاء ممن يناقش هذا التنظيم يسعى لتضييق وتخفيف أحكام الردة والمرتدين حتى لا يستثمرها هذا التنظيم في زيادة الشر، وأرى أن هذا مسلك قاصر علمياً وغير مجدٍ عملياً، فأما علمياً فالأسعد بالدليل ونصوص الفقهاء هو القول الذي يغلظ أحكام المرتدين وخصوصاً الطائفة المرتدة المحاربة، وأما أنه غير مجدٍ عملياً فإن هذا يحول الخلاف مع التنظيم لخلاف فقهي فروعي، والقضية أكبر من الخلاف الفروعي فهي إنزال وتركيب وإسقاط أحكام المرتدين على أهل لا إله إلا الله بل على كثير من أولياء الله كما نحسبهم، وهذا كثير في المدارس المنحرفة كما ترى التغريبيين مثلا يسعون لجعل الخلاف معهم خلافاً فروعياً فقهياً في شأن الحرية والمرأة ونحوها وأنهم يختارون أحد الأقوال الفقهية لا أن مذهبهم بمنظومته وتركيبه مذهب مناقض للشريعة.
ولا أكتم القارئ الفاضل أنني في الليالي التي كنت أدرس فيها وثائق التنظيم صارت تمر بي أحاسيس غريبة، وأنا أمشي بالطرقات وأرى الناس ساعين في حاجياتهم ومساجدهم وتجارتهم آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، كنت أطرق وأقول في نفسي كيف ستكون الأمور يا ترى لولا سمح الله وانفتحت لمثل هؤلاء روزنة يلجون منها؟ كيف ستكون دماء وأموال وأعراض المسلمين في هذا البلد؟
بل في أحد تلك الأيام لما انفتلت من صلاتي، وإذا بأحد أفضل وأطيب جيراننا روحاً وخلقاً وديناً يتم ما فاته من صلاته، وكان يصلي بلباسه العسكري، ويبدو أنه قدم متأخراً للمنزل فلم يسعفه تغيير ملابسه وأراد إدراك الجماعة، وحين رأيته توقفت وأخذت أقول يا الله مثل هذا الفاضل هو الذي يتوعده التنظيم بالنحر وسلب المال..
أمن الناس على أنفسهم وأموالهم وأبنائهم وأعراضهم نعمة جليلة شريفة لا يدركها إلا رجلان: إما رجل فاتته هذه النعمة ورأى ضدها، أو رجل درس وثائق تنظيم الدولة..
هذا هو الجزء الأول من الدراسة، وسيتبعه بإذن الله قريباً الجزء الثاني، وفيه نشر النتائج التي وجدتها في وثائق تنظيم الدولة، وفيها: تكفير وردة واستباحة دماء كل الجماعات الجهادية المعاصرة اليوم في الشام وأفغانستان وليبيا واليمن وغيرها، وتكفير وردة واستباحة دماء عامة الحركات الإسلامية وعامة العلماء والدعاة الإسلاميين، ومواقف عجيبة عن مبالغتهم في الإذعان لولاتهم وسلاطينهم، ودراسة علاقة تنظيم الدولة بتنظيم القاعدة، وتفسير المحضن الذي تسبب في تشكل التنظيم بهذه القسمات الجاهلية في باب الدماء.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه،،
أبو عمر
السابع والعشرون من رمضان لعام 1436هـ
مقال : رسالة إلى المنتسب لتنظيم الدولة
أضف تعليقاً