الخطبة الأولى

الحمد لله الذي وفق من شاء من عباده لحج بيته الحرام، وأتم عليهم نعمته بأداء المناسك بالأمن والسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رد الحجاج إلى بلادهم سالمين آمنين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله أفضل من حج وعاد مطهرا من الذنوب الآثام، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ما عاد عبادك من بلدك الحرام غانمين.

أما بعد:

 فاتقوا أيها المؤمنون، فإن تقواه أربح بضاعة للتجارة،وخير زاد للقيامة واحذروا معصية الله فإنها شر بضاعة يتجر بها، وقد خاب عبد فرط في أمر ربه وأضاعه فلقيه على ذلك ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[ آل عمران 102

أيها المؤمنون: في أيام قلائل قد خلت ودعتم إخوانكم على وجل وهم يقصدون بيت الله الحرام لعبادة من أعظم العبادات، ولقربة من أعظم القربات، تجرَّدوا لله من المخيط عند الميقات، وهلَّت منهم دموعُ التّوبة في صعيدِ عرفات على الوجَنات، خجلاً من الهفَوات والعثَرات، وضجَّت بالافتِقار إلى الله كلّ الأصوات بجميع اللُّغات، وازدلفت الأرواح إلى مزدلفةَ للبيات، وزحفت الجموع بعد ذلك إلى رمي الجمرات، والطواف بالكعبة المشرَّفة، والسعي بين الصفا والمروة، في رحلةٍ من أروع الرحلات، وسياحةٍ من أجمل السياحات، عادوا بعدَ ذلك فرحين بما آتاهم الله من فضلِه، سالمين مما كانوا يحذرونه: ]قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ[ يونس:58’ ولله الحمد والفضل كان حج هذا العام آمنا مطمئنا.

وهنيئًا لمن وفقه الله للحج بقول رسول الهدى r فيما يرويه عن ربِّه جلّ وعلا: (إذا تقرَّب العبد إليَّ شبرًا تقرّبت إليه ذراعًا، وإذا تقرّب مني ذراعًا تقرّبت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيتُه هرولة) أخرجه البخاري وقوله (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).

حجّاجَ بيت الله الحرام، اشكُروا الله على ما أولاكم، واحمَدوه على ما حبَاكم وأعطاكم، (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ، لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) إبراهيم 7، اعرفوا إكرام الله لكم وحافظوا عليه  تدخلون الجنة مكرمين.

عباد الله: إن التوفيق للعمل الصالح نعمة كبرى، ولكنها لا تتم إلا بنعمة أخرى أعظم منها، أتدرون ما هي تلكم النعمة – حفظكم الله -؟ هي نعمة قبول العمل، وهذا الأمر مهم جدا بعد كل عمل صالح وخاصة الحج الذي ينفق فيه العبد ماله ويفارق أهله وبلده ويتكبد أنواع النصب وألوان التعب وضروب المشقة، فما أعظم المصيبة إذا لم يقبل الحج ! وما أشنع الخسارة إذا ذهبت هذه الجهود مهب الرياح هباء منثورا، وباء صاحبها بالخسران المبين (والعياذ بالله)

ولذا وذاك فكان من الأهم بمكان أن يعرف العبد علامات وأسباب قبول العمل الصالح ليسعى على تحصيلها والحفاظ عليها، ومن تلكم العلامات والأسباب ما يلي:

1/ محاسبة النفس بعد الطاعة فإن الطاعات شرعت لمقاصد فالحج شرع لمقاصد عدة منها: توحيد الله تعالى وتحقيق التقوى والتحلي بالأخلاق الحميدة من صبر وتواضع وحلم ومساواة وخضوع …. فليحاسب الحاج في نفسه مدى اكتسابه من هذه المقاصد .

2/ الحرص على إخفاء العمل وسد منافذ الرياء والسمعة عنه بترك الحديث عن العمل، فلا تقولن فعلت وفعلت ….

3/ استصغار العمل وعدم العجب والغرور به  فلا يعترينك عجب وغرور بحجك فإن عملك لا يعادل معشار شكر ما آتاك الله من نعمة فتأمل كيف يوصي الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعد ما أمره بأمور عظام ]يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ[ المدثر 1-6،

فمن معاني الآية ما قاله الحسن البصري (لا تمنن بعملك على ربك تستكثره).

4/ الخوف من رد العمل وعدم قبوله روي أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ r قَالَتْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ r عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ]وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ[ قَالَتْ عَائِشَةُ أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ قَالَ: (لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) الترمذي وابن ماجه.

وأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: ]إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ[.

    5/ الرجاء وكثرة الدعاء بالقبول، فإن الخوف بلا رجاء يسبب اليأس والقنوط، والرجاء بلا خوف يسبب التقاعس والأمن من مكر الله …. قال الله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام ]وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة 127

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ]إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ الأحقاف 13

——————-

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي آوى مَن إلى لُطفه أوى، والصلاة والسلام عبده ورسوله من اتّبعه كان على الخير والهدى، ومَن عصاه كان في الغواية والردى

عباد الله ومن علامات وأسباب قبول الحج:

6/ الزيادة في الزهد عن الدنيا وفي حب الآخرة، سئل الحسنُ البصريّ رحمه الله تعالى: ما الحجّ المبرور؟ فقال: “أن تعودَ زاهدًا في الدّنيا، راغبًا في الآخرة”

7/ الإكثار من الاستغفار واللجوء إلى الله، فالاستغفار يجبر ما يعتري العمل من نقص وتقصير، ولذا أمر الله تعالى به بعد أداء المناسك فقال سبحانه

]… ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[ البقرة 199

8/ التوبة النصوح من المعاصي، إنّ الحاجَّ منذ أن يُلبِّي وحتى يقضي حجَّه وينتهي فإنّ كلَّ أعمال حجِّه ومناسكه تعرِّفه بالله، تذكّره بحقوقِه وخصائص ألوهيَّته جلّ في علاه، ويمتنع الحاج عن محظورات الإحرام ليتعلم أن هناك محظورات طول العمر يجب الامتناع عنها، وهي معاصي الله ]تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة 229،  فما أشنع الحسنة تتبعها السيئة.

وأيُّ حجٍّ لمن عادَ بعد حجّه يفعل شيئًا من الشِّرك ؟! أيُّ حجٍّ لمن عاد بعد حجِّه يأتي المشعوِذين والسّحرة، ويصدِّق أصحابَ الأبراج والتنجيم وأهل الطِّيَرة، ويُعلِّق التمائم والحروز؟! و أيُّ حجٍّ لمن عاد بعد حجِّه مضيِّعًا للصّلاة، مانعًا للزّكاة، آكلاً للرِّبا والرّشا، متعاطيًا للفاحشة، قاطعًا للأرحام، والغًا في الموبقات والآثام ؟! …..

9/ الإكثار من الأعمال الصالحة والمداومة عليها: فإن العمل الصالح شجرة طيبة تحتاج إلى سقاية و رعاية حتى تنمو وتؤتى ثمارها، فما أحسن الحسنة تتبعها الحسنة، وإن سلعة الله غالية لا تضمن بعمل يوم ولا بعمل شهر، وإنما بعمل العمر ]وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[ الحجر 99، فالحج بداية وليس نهاية ..

واعلموا أن بعد عودكم إلى البلاد لا يتبعكم حكم آخر من أحكام الحج، فالبقاء في البيت أربعين يوما بعد الحج لا أساس له من الصحة ولا يمت بهدي رسول الله صلة.

فاتقوا الله أيها المؤمنون، وأعدوا لمصيركم عدته، وتدبروا في عودكم إلى دياركم بعد الحج بعودكم إلى ما منها خلقكم ربكم ]مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى[ طه 55

اللهمَّ تقبَّل من الحجّاج حجَّهم، اللهمّ تقبّل من الحجّاج حجَّهم وسعيَهم، اللهمّ اجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، اللهمّ تقبّل مساعيَهم وزكِّها، وارفع درجاتهم وأعلِها، اللهم بلّغهم من الآمال منتهاها، ومِنَ الخيرات أقصاها، اللهمّ اجعل عودَهم إلى بلادهم حميدًا، واغفر لجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، اللهم فرج همومهم ونفس كربهم اللهم ما سألناك من خير فآتنا، وما لم نسألك فابتدئنا به، وما قصر عنه أعمالنا فأبلغنا إياه بفضلك وكرمك وجودك يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *