مشروع خطب الجمعة في إفريقيا | ||||
رقم الخطبة | عنوان الخطبة | معد الخطبة | تاريخ المقترح لإلقاء الخطبة | المراجعة والنشر |
163 | تعظيم الأشهر الحرم | الشيخ أسامة خياط – خطيب مسجد الحرام | 24/10/1445هـ الموافق 03/05/2024م | الأمانة العامة |
الموضوع: ” تعظيم الأشهر الحرم “
الحمد لله حمدَ مَنْ يرجو من الله النجاة وحُسْن العقبى، أحمده -سبحانه- على ترادُف نعمه التي لا تُحصى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى والصفات العلا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، النبي المجتبى والرسول المرتضى، صاحب الحوض والشفاعة العظمى، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أُولِي الريادة والزهادة والنهى.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وراقِبُوه وعظِّمُوه، وأنيبوا إليه وأطيعوه واحذروا أسباب سخطه، ولا تعصوه، ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ البقرة 281
عباد الله: إن الله -تعالى- يختص بحكمته ورحمته ما شاء من الأزمنة والأمكنة بما شاء من العبادات والقربات التي يزدلف العباد القانتون المخبتون بها إليه، مبتغين بها الوسيلة في سَيْرِهم إلى ربهم، بحُسْن القدوم عليه، ويُمْن الوفود عليه، ولقد كان مما كتبه -عز اسمه- وافترضه على لسان خليله إبراهيم وولده إسماعيل -عليهما السلام-: تحريم أشهر من السنة وتعظيمها بتحريم القتال فيها، وتواتر ذلك التحريمُ حتى نقلته العرب بالتواتر القولي والعملي، وتلك هي الأشهر الأربعة التي أشار إليها -سبحانه- بقوله: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ التوبة 36
وبينها رسول الهدى ﷺ بقوله في خطبة حجة الوداع: “إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ –تَعَالَى- السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ؛ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ شَهْرُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ” الشيخان، من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه-.
وإنما كانت الأشهر الحرم على هذه الصفة ثلاثة سرد وواحد فرد كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: “لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، وحرم قبل شهر الحج شهر وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يُوقِعُونَ فيه الحجَّ، ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحرَّم بعده شهرًا آخر؛ وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى نائي بلادهم آمنين، وحرم رجبًا في وسط الحَوْل؛ لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب، فيزوره ثم يعود إلى وطنه آمنا”. انتهى كلامه -رحمه الله-.
وأما استدارة الزمان فهي عودة حساب الشهور إلى ما كان عليه من أول نظام الخلق الذي كتبه الله وقدره، فوقع حجه ﷺ في تلك السنة في ذي الحجة الذي هو شهره الأصلي، ذلك أنهم -كما قال أهل العلم بالحديث؛ كالإمام الخطابي والحافظ ابن حجر وغيرهما- كانوا على أنحاء: منهم من يسمي المحرم صفرا، فيحل فيه القتال ويحرم القتال في صفر ويسميه المحرم.
ومنهم من كان يجعل سنة هكذا وسنة هكذا، ومنهم من يجعله سنتين هكذا وسنتين هكذا، ومنهم من يؤخر صفر إلى ربيع الأول وربيعا إلى ما يليه، وهكذا إلى أن يصير شوال ذا القعدة وذو القعدة ذا الحجة، ثم يعود العدد على الأصل فكانوا يخالفون بين أشهر السنة بالتحليل والتحريم والتقديم والتأخير لأسباب تعرض لهم، منها: استعجال الحرب فيستحلون الشهر الحرام ثم يحرمون بدله شهرا غيره، فتتحول في ذلك شهور السنة وتتبدل. انتهى.
وذلك هو النسيء الذي ذمه الله -تعالى- وبين أنه زيادة في الكفر؛ لأنه تشريع ما لم يأذن به الله مضاف إلى أصل كفرهم بالله والشرك به فقال عز من قائل: ﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ التوبة 37، فتشريع الحلال والحرام والعبادة -يا عباد الله- هو حق لله وحده، فمن شرَّع من عند نفسه شرعًا فقد نازع الله -عز وجل- في حقه، وذلك شرك بربوبيته كما دل عليه قوله -سبحانه-: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ الشورى 21
فيُضلون به سائر من يتبعهم من الكافرين، الذين يتبعونهم فيه ويتوهمون أنهم لم يخرجوا به عن ملة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-؛ حيث وطؤوا فيه عدة ما حرم الله من الشهور في ملته، وإن أحلوا ما حرمه الله وهو المقصود بالذات من شرعه لا مجرد العدل، وهذا كله من ظلم النفس في الشهر الحرام الذي نهى عنه ربنا بقوله: ﴿ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ التوبة 36
وظلم النفس -يا عباد الله- يشمل كل محظور يوبق المرء فيه نفسه، ويدخل فيه: هتك حرمة الشهر الحرام دخولا أوليًّا محقَّقًا، وهذا الظلم للنفس كما يكون بالشرك بالله -تعالى- وهو أعظم ظلم لها، كما قال تعالى على لسان لقمان: ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لُقْمَانَ: 13]، فإنه يكون أيضا بالتبديل والتغيير في شرع الله، والتحليل والتحريم لمجرد الهوى والآراء الشخصية والاجتهادات والاستحسانات التي لا يسندها دليل صحيح من كتاب ربنا، أو سنة نبينا ﷺ.
ويكون ظلم النفس أيضا: باقتراف الآثام واجتراح السيئات في مختلف دروبها، فالذنب سوء وشؤم وظلم للنفس في كل زمان؛ لأنه اجتراء على العظيم المنتقم الجبار، المحسن إلى عباده من نعم الخاصة والعامة، المتحبب إليهم بالآلاء وهو الغني عنهم، لكنه في الشهر الحرام أشد سوءا، وأعظم جرما، وأفدح ظلما؛ لأنه جَامِعٌ بين الاجتراء والاستخفاف وبين امتهان وانتهاك حرمة ما حرمه الله وعظَّمه واصطفاه، فكما أن المعاصي تغلظ في البلد الحرام لقوله -عز اسمه-:
﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ الحج 25، فكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام، ولهذا غلظت فيه الدية عند كثير من العلماء؛ كالإمام الشافعي -رحمه الله- وغيره.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: “إن الله اختص من الأشهر أربعة أشهر، جعلهن حراما وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيها أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم”، وقال قتادة -رحمه الله-: “إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيما، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء”. انتهى.
فاتقوا الله -عباد الله-، وعظِّمُوا ما عظَّم اللهُ، ومنها هذا الشهر الحرام الذي أظلكم، فعظِّمُوه بما شرَع اللهُ، وباتباع سنة الحبيب الهادي رسول الله ﷺ، وحذار من الابتداع حذار، حذار من الابتداع في دين الله ما لم يأذن به الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولجميع المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل لبعض الأزمان مزيدا من الفضل والحرمة، أحمده -سبحانه- على عميم الخير والنعمة، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، يشمل العباد في العفو والغفران والمنة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، المبعوث إلى خير أمة، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ذوي الحجا والحكمة.
أما بعد فيا عباد الله: حَرِيٌّ بمن رضي بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا أن يحجز نفسه عن الولوغ في الذنوب، وينأى بها عن مزالق الخطايا، ويكفها عن التلوث بأرجاس الإثم، وأن يترفع عن دواعي الهوى والنزوات والشطحات الموبقات المهلكات وتسويل الشيطان وتسويل النفس الأمارة بالسوء، وخطرات الشيطان وخطواته، وأن يذكر على الدوام أن الحياة أشواط ومنازل، تفنى فيها الأعمار وتنتهي الآجال، وتنقطع الأعمال، ولا يدري المرء متى يكون الفراق لها، وكم من الأشواط يقطع منها، وإلى أي مرحلة يقف به المسير.
فالسعيد مَنْ سَمَتْ نفسُه إلى طلب أرفع المراتب، وإلى ارتقاء أعلى الدرجات من رضوان الله ومحبته وغفرانه، فاتقوا الله -عباد الله- باستدراك ما فات، واغتنام ما بقي من الأزمنة الشريفة والأوقات الفاضلة المباركة، والتزام المسلك الراشد والنهج السديد في هذا الشهر الحرام وفي كل شهور العام بالإقبال على موائد الطاعة، ورياض القربات والاستمساك بما صح وثبت عن سيد الأنام ﷺ، وَأَعْرِضُوا عن كل مبتدَع لا أصل له، في كتاب الله ولا في سنة رسوله ﷺ.
فاتقوا الله -عباد الله- وعظِّموا ما عظَّمه الله باتباع رسول الله ﷺ واذكروا على الدوام أن الله -تعالى- قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ الأحزال 56.
وصلِّ اللهم وسلِّم على عبدِك ورسولِك نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبِه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليقاً