عنوان الخطبة

معد الخطبة

تاريخ المقترح لإلقاء الخطبة

المراجعة والنشر

أركان الإسلام

الشيخ أحمد علوان الشهيمي

16/01/1447هـ  الموافق 11/07/2025م

الأمانة العامة

 

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمدَ لله، نَحمَدُهُ سبحانه ونستعينُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِهِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصبحه، ومَن تبِعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلًّ ضلالة في النار.

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ النساء 1﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران 102

عباد الله، ما قام بناء إلا بأركانه، فإن اختل أحد هذه الأركان تهاوى البناء وتداعى، وقوة البناء وضَعفه من قوة أركانه ومتانتها، وكذلك يكون الضعف، ففي صحيح البخاري قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : (بُنِيَ ‌الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ).

 الإسلام هو الدين وأركانه خمس بها يقوم، وعليها يكون بناؤه، فمن حقَّقها على ما أمر الله به ورسوله، قام دينه، وصح إيمانه، فإن أخلَّ بشيءٍ منها تهاوى دينه، ولهذا كان كفار قريش لعلمهم بمعنى (لا إله إلا الله)، ما رَضُوا أن يقولوها؛ لأنها تلزمهم بإخلاص الدين لله وحده؛ قال تعالى على لسانهم: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ ص 5.

 وشهادة أن محمدًا رسول الله تقتضي تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن تكون عبادة الله تباعًا لما جاء به من عند ربه، ففي صحيح مسلم أن رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: (مَا ‌نَهَيْتُكُمْ ‌عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، فلا تصح العبادة إلا بهذين الشرطين الإخلاص والمتابعة.

 إنَّ الشهادتين يدخل بها المرء الإسلام، وهي مفتاح الجنة؛ قال رسول الله ﷺ: (من كان ‌آخرُ ‌كلامهِ لا إله إلا اللهُ دخل الجنة)؛ رواه أبو داود.

 أما عمود الدين الذي عليه يقوم، فقَالَ : (َأْسُ ‌الْأَمْرِ ‌الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ)؛ رواه النسائي 

 فهي أظهر أركانه وأكثرها تَكرارًا في اليوم والليلة، فهي الصلاة، وإقامتها أن تكون كاملة الشروط والأركان والواجبات، لا يختل منها شيء كما أقامها رسول الله القائل: (صَلُّوا ‌كَمَا ‌رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) رواه البخاري.

 وأن يؤديها حيث ينادى بها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ أَعْمَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الصَّلَاةِ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ قَالَ لَهُ: (‌أَتَسْمَعُ ‌النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَجِبْ) النسائي

 وحذَّر الله عباده من التهاون في أدائها: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ الماعون 4-5

وفي صحيح مسلم قال رَسُولَ اللهِ : (‌تِلْكَ ‌صَلَاةُ ‌الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا)، كحال من يضع المنبه على وقت العمل ليقوم وقد مضى وقت الصلاة، وقد: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ النساء 3، وفي صحيح مسلم قال النَّبِيَّ : (إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ ‌تَرْكَ ‌الصَّلَاةِ).

 والركن الثالث: حق الله في المال أن تؤديه لمستحقيه بالمقدار المخصص لكل صِنفٍ في وقته: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ الأنعام 14.

 أما الرابع: فهو الصيام لله؛ كما فيصحيح البخاريمن الحديث القدسي قَالَ اللَّهُ: (كُلُّ ‌عَمَلِ ‌ابْنِ ‌آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ).

  والركن الخامس: هو حج بيت الله الحرام، واستجابةً لنداء أبينا إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ الحج 27. ويكون على مَن له استطاعة؛ لقوله تعالى: ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ آل عمران 97

فإن مرَّ على العبد وقت الحج وهو عنده الاستطاعة، وجَب عليه الحج، وأَثِمَ على تفريطه، فلا يعلم ما يحدث له بعد ذلك من موانع أو صوارف تَمنعه من الحج.

 قلت ما سمعت وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، هادي عباده للطريق القويم والصراط المستقيم، وصلِّ اللهم وسلم على خير الخلق أجمعين وقائدهم على الصراط المستقيم.

 أما بعد:

أيها المؤمنون، هذه أركان الإسلام الخمسة التي بُنيَ عليها الدين، فمن أقامها صلح دينه، فلا ينبغي لعاقلٍ أن يفرطَ في شيء منها، ويحرص كل الحرص على تعلُّمها وتعليمها لمن وكَّله الله أمره: (كُلُّكُمْ ‌رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)، وأن يقيموها كما أمر الله بها ورسوله؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ العنكبوت 69.

وصلوا وسلموا على نبيكم فقد أمركم بذلك ربكم في محكم تنزيله وقال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ الأحزاب 56.

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرياته وكل من سلك مسلكه واهتدى بهديه وتمسك بسنته إلى يوم الدين …

اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه وأرنا الباطن باطلا وارزقنا اجتنابه …………………..والحمد لله رب العالمين.

في يوم الإثنين 7 يوليو 2025، نظمت إذاعة دامبي Dembé الدورة الأولى من مسابقة المؤذنين، بمبادرة مميزة من الإذاعة، وبمشاركة عدد من المتسابقين إلى جانب الووجهاء والمؤثرين في الساحة الدينية، وكذلك بعض أعضاء الاتحاد في دولة المقر.

وقد شارك الدكتور سعيد محمد بابا سيلا في تقييم الأداء كعضو في لجنة التحكيم.

وفي ختام المسابقة، تُوّج الفائز الأول بجائزة تذكرة لأداء العمرة، وسط حضور جماهيري مميز.

صورة 04 01 02 03

صورةمشاركة الأمين العام لاتحاد علماء إفريقيا الدكتور سعيد محمد بابا سيلا في الدورة الأولى من مسابقة المؤذنين التي نظّمتها إذاعة دامبي باماكو المزيد….

عنوان الخطبة

معد الخطبة

تاريخ المقترح لإلقاء الخطبة

المراجعة والنشر

الزكاة حكم وأحكام، وصوم يوم عاشوراء

الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي خطيب المسجد النبوي

08/01/1447هـ  الموافق 04/07/2025م

الأمانة العامة

الخطبة الأولى

الحمد لله، الحمد لله الغني الحميد، ذي العرش المجيد، أحمدُ ربي وأشكُره، وأتوبُ إليه وأستغفِرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فعَّالٌ لما يُريد، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه المنصورُ بأعظم التأييد، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه المُتَّبعين للأمر الرشيد.

أما بعد:

فاتقوا الله تعالى بفعل الخيرات، وترك السيئات.

أيها المسلمون: اعلموا أن تعاليم الدين الحَنيف ترجعُ كلُّها إلى أمورٍ ثلاثةٍ، هي: الإحسان إلى النفس، والإحسان إلى الخلق، وكفُّ الأذى والشرِّ عن الخلق.

الإحسانُ إلى النفس بأنواع العبادات، والإحسانُ إلى الخلق بأنواع الخير، قال الله تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ البقرة 195، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ البقرة 190، وقال عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ النحل 90.

ووصفَ الله المؤمنين بالإحسان إلى النفس، والإحسان إلى الخلق، وبكفِّ الأذى والشرِّ عن الناس، فقال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ التوبة 71، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ الفرقان 63.

عباد الله: إن الزكاةَ عبادةٌ لله جعلها الله في المال حقًّا مفروضًا على المسلم، لأصحاب الزكاة الثمانية، لا منَّة فيها للغنيِّ على الفقير، فرضَها الله للتكافُل الاجتماعيِّ بين المُسلمين، وأوجبَها لقضاء حاجات الفقراء والمساكين؛ إحسانًا إلى الخلق، وثوابًا لفاعلِها، ولها منافعُ كثيرة، ولها مقاصِدُ عظيمة، فمن ذلك:

تطهير القلوب من الشُّحِّ والبُخل والرَّذائِل، قال الله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾  التوبة 103.

وأداءُ الزكاة يجتثُّ داءَ الحسَد من القلوب الذي يكونُ بسبب التفاضُل في الدنيا، والحسدُ مرضٌ خبيثٌ يحمِلُ على البغي والعُدوان، والظلم والبغضاء بين المُجتمع، وفي الحديث: (دبَّ إليكم داءُ الأُمم قبلَكم: الحسد والبغضاء، فإياكم والحسد؛ فإنه يأكلُ الحسنات كما تأكلُ النارُ الحطَب)؛ رواه أبو داود.

وأداءُ الزكاة يُورِثُ التعاطُفَ والتراحُمَ بين المسلمين، ويضمنُ التكافُلَ الاجتماعيَّ، والمحبَّةَ بين الغنيِّ والفقيرِ.

والزكاةُ ركنٌ من أركان الإسلام، مقرونةٌ بالصلاة في كتاب الله وفي سُنَّة رسولِ الله ﷺ، فتُقبلُ هذه مع هذه.

وقد أعطَى الله المالَ الكثيرَ، وفرضَ الزكاةَ وهي مالٌ قليلٌ، قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى﴾ النجم 48، وقال تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ النحل 53، وقال عز وجل: ﴿وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ۞ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ۞ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ الشعراء 132- 134، وقال تعالى: ﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ النور 33.

ومن شُكر الله على المال: إخراجُ الزكاة منه، والزكاةُ تزيدُ في المال ولا تُنقِصُه، وتحفظُه من الهلَكَة والآفات، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ سبأ 39.  وفي الحديث: (ما هلكَ مالٌ في برٍّ ولا بحرٍ إلا بمنعِ زكاتِه). وعن ابن عمر t قال: قال رسولُ الله ﷺ: (… وما منعَ قومٌ زكاةَ أموالهم إلا حُبِسَ عنهم القطرُ من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطَروا)؛ رواه ابن ماجه.

والفقراءُ يُخاصِمون الأغنياءَ يوم القيامة إذا منَعُوهم الزكاة، يقولون: ربَّنا! جعلتَ المالَ عند هؤلاء، فمنَعُونا حقَّنا، فيقضِي الله بينهم بحُكمه.

وقد وعدَ لله المُزكِّي أعظمَ الثواب على أداء الزكاة، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾ المؤمنون 4، وذكرَ مع الزكاة أعمالاً غيرَها، وبيَّن الثوابَ بقوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ۞ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ المؤمنون 10، 11.

وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۞آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ۞كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ۞ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ۞ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ الذاريات15- 19.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَني وإياكم بما فيه الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيِّد المُرسلين وقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرزاقُ ذو القوة المتين، وأشهد أن نبيِّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فاتقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى.

عباد الله: لقد توعَّد الله من منعَ زكاةَ ماله بالعذابِ الأليم، فقال تعالى: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ۞ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ فصلت 6، 7، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۞ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ التوبة 34، 35.

وكل مالٍ أُدِّيَت زكاتُه خرجَ صاحبُه من هذا الوعيد.

وعن أبي هريرة t قال: قال رسولُ الله ﷺ: (ما من صاحبِ كنزٍ لا يُؤدِّي زكاتَه إلا مُثِّلَ له يوم القيامة شُجاعًا أقرع – يعني: ثُعبانًا -، فيأخذُ بلهزَمَتيه – يعني: شِدقَيه -، فيقول: أنا كنزُك، أنا مالُك)؛ رواه البخاري ومسلم.

وصاحبُ الإبل والبقر والغنم التي لا يُؤدِّي صاحبُها زكاتَها يُبطحُ لها، فتطؤُه، كما جاء في “صحيح مسلم”.

وتجبُ الزكاة في الذهب والفضَّة، وما يقوم مقامهما من العُملات الورقيَّة إذا بلغَ كلُّ منهما نِصابًا، أو بلغَا نِصابًا بمجموعهما.

والزكاةُ تجبُ في الإبل والبقر والغنَم ببلوغِ النِّصاب، وتجبُ في الخارِجِ من الأرض، وتجبُ في عروض التجارة فتُقوَّمُ بثمن، ويُخرَج رُبع عُشر العروض، ومن كان عليه دَينٌ أدَّى دَينَه، وما بقِيَ يُزكِّيه، وإذا لم يُخرِج دَينَه فيُزكِّي ما تحت يدِه.

ونِصابُ الذهب عِشرون مِثقالاً، ووزنُه خمسةٌ وثمانون جِرامًا، ونِصابُ الفضَّة مائتا درهَم، ووزنُه خمسمائة وخمسةٌ وتسعون جِرامًا، أو ما يقومُ مقامَهما من العُملة الورقيَّة، وقيمةُ نِصاب الذهب أو الفضَّة تختلفُ بالعُملة الورقيَّة في الزمان.

والذي ينضبِط هو أن يُخرِج اثنين ونِصفًا في المائة، فمن أخرجَ من المائة اثنين ونِصفًا، ومن الألف خمسةً وعشرين، ومن المليون خمسةً وعشرين ألفًا فقد برِئَت ذمَّتُه، وما زادَ على النِّصاب يجبُ أن يُزكَّى بحسابِه، وليس فيما بعد النِّصاب وقصٌ؛ بل يُزكَّى ما زادَ على النِّصابِ في الذهبِ والفضَّة بحسَبِه.

وعلى المُسلم أن يتفقَّهَ في الزكاة، وأن يسألَ أهلَ العلم عن تفاصيلِها؛ ليُؤدِّي حقَّ الله في مالِه، ومن زكَّى مالَه المُتقدِّم الذي حالَ عليه الحولُ، والمتأخِّر كلَّ سنةٍ في وقتٍ وفي شهرٍ كشهرِ رمضان أجزأَهُ ذلك.

يا ابنَ آدم! مالُك ما قدَّمتَه، ومالُ غيرك ما أخَّرتَه، ولو أن الأغنياءَ أخرَجوا زكاة أموالهم لما بقِيَ فقيرٌ وسائلٌ، فاعتبِرُوا بمن سبَقَكم من القرون الهالِكة الذين عذَّبَهم الله بأموالِهم، واعتبِروا بمن بلغَتكم أخبارُهم فلم تنفعهم أموالُهم. والمالُ إما أن تترُكَه، وإما أن يترُكَك.

وقد شرعَ الله غيرَ الزكاة نفقاتٍ واجِبةً، أو مُستحبَّة، وحثَّ ربُّنا على الإنفاقِ في سُبُل الخير، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ البقرة 254.

عباد الله: إن يومَ عاشوراء، مع كونِه يومَ النصرِ لموسى وقومِه، على الطاغيةِ فرعون وقومِه، فإنه مع ذلك من أيامِ الله التي جعلَ لها من الفضل العظيم ما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمامُ مُسلم بن الحجاج – رحمه الله – في “صحيحِه”، عن أبي قتادةَ t، أن رجُلًا سألَ النبيَّ ﷺ عن صيامِ يومِ عاشوراء، فقال ﷺ: (إني أحتسِبُ على الله أن يُكفِّر السنةَ التي قبلَه)، ومن السُّنَّة : أن يُصامَ يومٌ قبلَه، أو يومٌ بعدَه.

عباد الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ الأحزاب 56 وقد قال ﷺ «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».

فصلُّوا وسلِّموا على سيِّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.

اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنا معهم بمنِّك وكرمِك ورحمتِك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الكفر والكافرين…

اللهم اغفِر لأمواتنا، وأموات المسلمين، ونوِّر قبورَهم، وضاعِف حسناتهم، وتجاوَز عن سيئاتهم يا رب العالمين.

عباد الله: واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدْكم، ولذكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

مشروع خطب الجمعة في إفريقيا
رقم الخطبة عنوان الخطبة معد الخطبة تاريخ المقترح لإلقاء الخطبة المراجعة والنشر
226 حرمة شهر الله المحرم وعاشوراء الشيخ أسامة خياط خطيب المسجد الحرام 01/01/1447هـ  الموافق 27/06/2025م الأمانة العامة

 

الموضوع: “حرمة شهر الله المحرم وعاشوراء

الحمد لله جعل التقوَى خيرَ زاد، أحمدهُ – سبحانه – وأشكرُه، والشكرُ حقٌّ واجبٌ له على كلِّ العباد، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ولا نظيرَ ولا أنداد، وأشهدُ أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، شفيعُ المُوحِّدين يومَ التناد، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آلهِ وصحبِه ذوي البرِّ والتُّقَى والرشاد.

 

أما بعد:

فاتَّقُوا الله – عباد الله -، ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ البقرة: 281.

ذلك اليوم الذي تُكشَفُ فيه السرائِر، وتُعلَنُ المُخبَّآت المكنونات في الصدور، يومَ تُوضَعُ موازينُ العدل، وتُنشَرُ صحائِفُ الأعمال، ويُحاسَبُ فيه الخلائِقُ على النَّقيرِ والقِطمِير، ولا يَظلِمُ ربُّك أحدًا، ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ الأنبياء: 47.

يوم تعنُو الوجوهُ للحي القيوم، وتذِلُّ أعناقُ الجبابِرة للإلهِ الحقِّ الفردِ الصمد، ذي العظمةِ والجلال، فيقول – وقولُه الحقُّ -: “أنا الملِك، أنا الديَّان، لمن المُلكُ اليوم؟ لله الواحدِ القهار”، ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ غافر: 17.

يومَ تسقطُ كلُّ القِّيم، إلا قيمةَ التقوَى، وتزُولُ الفوارِق، إلا فوارقَ الباقياتِ الصالحات، وتهوِي كلُّ المعايير، إلا مِعيارَ العملِ المبرُور، ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ المؤمنون: 100- 103.

يوم يتجهَّمُ الخليلُ لخليلِه، ويُعرِضُ عنه، ويتنكَّر القريبُ لأقربِ الناسِ إليه، وأرفَعِهم منزلةً عنده، وأعلاهم مقامًا لدَيه، ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ الزخرف: 67، ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ عبس: 34- 37.

فأعِدُّوا لهذا اليوم عُدَّتَه، وخذُوا له أُهبَتَه. فمن صدَقَ يقينُه جدَّ، ومن علِمَ قُربَ الغايةِ استعدَّ.

 

عبادَ الله: إنَّ إشراقَ شمسِ شهرِ اللهِ المُحَرَّم هو مطلعُ عامٍ جديدٍ، وبدايةُ مرحلةٍ من مراحِلِ العمر، تبعثُ على السعادةِ والغِبطَة، وتُشيعُ السُّرورَ في جنَبَاتِ النفس، أن منَّ الله على عبده، فأمدَّ له في أجَلِه، وأطالَ في عُمُره، حتى أدرَكَ ما قعَدَ بغيره الأجلُ عن إدراكِه، وحظِيَ بما حُرِمَ منه من أمسى رَهِينَ قبره، من أهلِه وإخوانِه وأحبَّته وعُشرائِه.

وتلكَ نعمةٌ ما أجلَّها، ومنَّةٌ ما أعظَمَها، وما أعظمَ حقَّ المُنعِم بها – سبحانه – في وجوبِ الشُّكرِ له عليها، باغتِنام فُرصَتها لاستِصلاحِ ما فسَد، وتدارُكِ ما فاتَ، واستِكمالِ ما نقَص، بالسعيِ إلى التَّرقِّي في مدارجِ الباقياتِ الصالحات، واستِباقِ الخيرات.

وإن خيرَ ما يقَعُ به الشُّكرُ لله ربِّ العالمين المُنعِم بهذا الإمدادِ والفُسحةِ في الأجل: أن يبدأُ المسلمُ عامَه بالصيام التي تُرَوَّضُ فيه النفسُ على كبحِ جِماحِها إزاءَ الشهوات المُحرَّمة، والنَّزَواتِ والشطَحَات، وتسمُو به لبلوغِ الكمالاتِ الروحية، وتغدُو به أقربَ إلى كلِّ خيرٍ يُحبُّه الله ويرضَاه، وأبعَدَ عن كلِّ شرٍّ حذَّر منه ونهى عنه.

وإنَّ للصيام في هذا الشهر – يا عباد الله – مزِيَّةً وفضلًا عظيمًا، أخبَرَ عنه رسولُ الهُدى – صلواتُ الله وسلامُه عليه -، بقوله في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلمُ بن الحجاج – رحمه الله – في “صحيحه”، عن أبي هريرةَ – رضي الله عنه -، أن رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال: (أفضلُ الصيامِ بعدَ رمضان: شهرُ اللهِ المُحَرّم، وأفضلُ الصلاةِ بعدَ الفريضة: صلاةُ الليل).

والصومُ حين يقعُ في شهرٍ حرامٍ فإن الفضلَ يقترِنُ فيه بالفضلِ، فيتأكَّدُ فعلُه بشرفِه في ذاتِه، وبشرفِ زمانِه، وإن آكَدَ الصيامِ في هذا الشهرِ: صومُ يومِ عاشوراء، ذلك اليوم الذي نصرَ الله فيه موسى – عليه وعلى نبيِّنا أفضلُ الصلاة والسلام -، ومن معه من المؤمنين، على الطاغيةِ فرعون الذي عَلَا في الأرض، وجعلَ أهلهَا شِيعًا يستضعِفُ طائفةً منهم، يُذبِّحُ أبناءَهم، ويستحيِي نساءَهم، والذي تمادَى به الطغيانُ حتى بلَغَ به أن قال لهم: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾، وقال لهم: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾.

فكان عاقِبتَه الإهلاكُ بالغرَقِ في اليَمِّ جزاءَ استِكبارِه، واستِكبارِ جنوده في الأرض بغيرِ الحقِّ، وكان أن قَصَّ الله نبأَ نهاية طُغيانه، وقَطعِ دابرِ ظُلمِه في قرآنٍ يُتلَى؛ ليكونَ عبرةً للمُعتِبِرين، وذِكرَى لمن كان له قلبٌ أو ألقَى السمعَ وهو شهيد.

عباد الله: إن يومَ عاشوراء، مع كونِه يومَ النصرِ لموسى وقومِه، على الطاغيةِ فرعون وقومِه، فإنه مع ذلك من أيامِ الله التي جعلَ لها من الفضل العظيم ما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمامُ مُسلم بن الحجاج – رحمه الله – في “صحيحِه”، عن أبي قتادةَ – رضي الله عنه -، أن رجُلًا سألَ النبيَّ ﷺ عن صيامِ يومِ عاشوراء، فقال ﷺ: (إني أحتسِبُ على الله أن يُكفِّر السنةَ التي قبلَه)، ومن السُّنَّة – يا عبادَ الله -: أن يُصامَ يومٌ قبلَه، أو يومٌ بعدَه.

فخُذُوا بحظِّكم من هذا الخير، وعظِّموا ما عظَّمَه الله من أيامٍ، باتِّباع سُنَّةِ خيرِ الورَى – صلواتُ الله وسلامُه عليه -، واقتِفاءِ أثَره، والاهتِداءِ بهَديِه، والحَذَرِ من الابتِداعِ في دينِ الله ما لم يأذَن به الله، وما لم يشرَعه رسولُ الله ﷺ ، ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ الأحزاب: 71.

نفعَني اللهُ وإياكم بهدي كتابِه وبسُنَّة رسولِه ﷺ، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافَّةِ المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفورُ الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية:

إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفُسِنا، وسيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهَ وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وصحبِه، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد، فيا عباد الله:

أخرج الإمامُ مسلمٌ في “صحيحه” بإسنادِه، عن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما -، أنّه لما قيل لرسولِ الله ﷺ: إن هذا اليوم – يعني: يوم عاشُوراء -، إن هذا اليوم تُعظِّمُه اليهودُ والنصارَى، قال ﷺ: (لئِن بقِيتُ إلى قابِلٍ لأصُومَنَّ التاسِعَ)، فلم يأتِ العام القابِل حتى تُوفِّي رسولُ الله ﷺ.

وفي “صحيحِ الإمام مسلمٍ” أيضًا، عن الحكمِ بن الأعرج أنه قال: انتهيتُ إلى ابنِ عباس – رضي الله عنهما – وهو مُتوسِّدٌ رِداءَه في زمزمَ. فقلتُ له: أخبِرْني عن صومِ يوم عاشوراءَ، فقال: “إذا رأيتَ هلالَ مُحرَّمٍ فاعدُدْ، وأَصبِح اليومَ التاسعِ صائِمًا”، قلتُ: هكذا كان رسولُ اللهِ ﷺ  يصُومُه؟ قال: “نعم”.

وقد استشكلَ قومٌ هذا، مع ثُبوتِ الأمرِ بصومِ يومِ عاشوراء، وهو اليومُ العاشرُ من شهرِ اللهِ المُحرَّم، ومن تأمَّلَ مجموعَ روايات حديثِ ابن عباسٍ – رضي الله عنهما – تبيَّن له وجهُ الصوابِ فيه، وارتفَعَ عنه الإشكالُ، وتبيَّن له أيضًا سَعةُ علمِ ابن عباسٍ – رضي الله عنهما -، ودِقَّةُ فقهِه.

فإنه كما قال الإمامُ ابن القيم – رحمه الله -: “إنه لم يجعَل عاشوراء هو اليومَ التاسع؛ بل قال للسائِلِ: صُم اليوم التاسع، واكتَفىَ – رضي الله عنهما – بمعرفَةِ السائِلِ أن يومَ عاشوراء هو اليومُ العاشر، الذي يَعُدُّه الناسُ كلُّهم أنه يوم عاشوراء.

فأرشَدَ السائِلَ إلى صيام التاسع منه، وأخبَرَ أن رسولَ الله ﷺ كان يصُومُه كذلك؛ إما لأنه الأَولَى، أو أنه أخبَرَ بفعلِ النبي ﷺ، لأنه – عليه الصلاة والسلام – أمرَ به، وعزَمَ على صيامِه في المستقبل، وكلُّ هذه الآثار يُصدِّقُ بعضُها بعضًا، ويُؤيِّدُ بعضُها بعضًا.

فمراتِبُ صومِه ثلاثةٌ: أكمَلُها: أن يُصامَ قبلَه يومٌ وبعده يوم، ويلِي ذلك: أن يُصامَ التاسعُ والعاشرُ، وعليه أكثرُ الأحاديث، ويلِي ذلك: إفرادُ العاشرِ وحدَه بالصوم”.

 

فاتَّقُوا الله – عباد الله -، واغتنِمُوا هذا الفضلَ العظيم، واحرِصُوا على إدراكِ هذا الخير العَمِيم، وخُذُوا منه بأوفرِ النصيبِ تفُوزُوا بالأجرِ الكريمِ، والثوابِ الجزيل، من الجوادِ الكريم، ذي الإجلالِ والإكرام، والطَّولِ والإنعام.

واذكُرُوا على الداوم أن الله تعالى قد أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على خير الأنام، فقال في أصدقِ الحديث وأحسنِ الكلام:

﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ الأحزاب: 56.

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائِه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائِرِ الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وكرمِك وإحسانِك يا أكرم الأكرمين.

﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ الأعراف: 23.

﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ البقرة: 201.

وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

 

 

مشروع خطب الجمعة في إفريقيا
رقم الخطبة عنوان الخطبة معد الخطبة تاريخ المقترح لإلقاء الخطبة المراجعة والنشر
225

لزوم غرر النبي ﷺ في مستهل_ العام الهجري

د. عثمان صالح تروري ـــ عضو الاتحاد في مالي 24/12/1446هـ  الموافق 20/06/2025م الأمانة العامة

 

الموضوع: ” لزوم غرر النبي في مستهل العام الهجري

الحمد لله الذي تفضل على عباده بمواسم الخيرات وتكرم وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة وهو لهم أبر وأكرم، أحمده سبحانه وأشكره على ما أولاه وأجزل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل الحج آية التوحيد في ختام العام وملتقى المسلمين في أعظم الاجتماع، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من حج واعتمر وعاد إلى مقره غانما سالما مأجورا، أفضل الأنبياء مكانة وشرفا، وأزكاهم طاعة وبرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى الآل والصحب أجمعين.

أما بعد: فيا أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل سرا وعلنا، حلا وترحالا، فتقوى الله حصن عزيز تمنع أهلها، وتحرِّز من لجأ إليها، وبها تُقْطَع حُمَةُ الخطايا، فهي النجاة غداً، والمنجاة أبداً: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ طه:132، والمتقون هم أولياء الله حقا وصدقا، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، واعلموا أنكم لم تخلقوا عبثا ولن تتركوا سدى، وإن لكم معادا يحكم الله بينكم فيه، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم من جنة عرضها السموات والأرض، واعلموا أن الأمان غدا لمن خاف الله اليوم، وباع قليلا بكثير، وفائتا بباق، ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ أيها المؤمنون : في أيام قلائل قد خلت ودعتم إخوانكم على وجل وهم يقصدون بيت الله الحرام لعبادة من أعظم العبادات، ولقربة من أعظم القربات، تجرَّدوا لله من المخيط عند الميقات، وهلَّت منهم دموعُ التّوبة في صعيدِ عرفات على الوجَنات، خجلاً من الهفَوات والعثَرات، وضجَّت بالافتِقار إلى الله كلّ الأصوات بجميع اللُّغات، وازدلفت الأرواح إلى مزدلفةَ للبيات، وزحفت الجموع بعد ذلك إلى رمي الجمرات، والطواف بالكعبة المشرَّفة، والسعي بين الصفا والمروة، في رحلةٍ من أروع الرحلات، وسياحةٍ من أجمل السياحات، عادوا بعدَ ذلك فرحين بما آتاهم الله من فضلِه، سالمين مما كانوا يحذرونه ﴿قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ يونس:58، ولله الحمد والفضل كان حج هذا العام آمنا مطمئنا .

وهنيئًا لمن وفقه الله للحج بقول رسول الهدى ﷺ فيما يرويه عن ربِّه جلّ وعلا: (إذا تقرَّب العبد إليَّ شبرًا تقرّبت إليه ذراعًا، وإذا تقرّب مني ذراعًا تقرّبت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيتُه هرولة) أخرجه البخاري وقوله (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).

حجّاجَ بيت الله الحرام، اشكُروا الله على ما أولاكم، واحمَدوه على ما حبَاكم وأعطاكم، ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ إبراهيم 7، اعرفوا إكرام الله لكم وحافظوا عليه  تدخلون الجنة مكرمين .

حجاج بيت الله الحرام: إن التوفيق للحج والعود بعده بسلامة نعمة عظيمة ومنة جسيمة فكم من مسلم يحلم بالحج، وكم وافتهم المنية قبيل وأثناء وبعيد الحج، وإن هذه النعمة لا تتم إلا بتحقيق مقصد أعظم من مقاصد الحج، وهو التسليم الكامل لله تعالى ولرسوله عليه أفصل الصلاة وأزكى التسليم فيما بقي من العمر، والتسليم لله ورسوله عنوان الصديقية، وقاعدة الولاية الربانية، والاختبار الحقيقي لإيمان العبد وإسلامه، قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ النساء 65، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ الأحزاب 36. ولأجل التسليم شرعت أعمال الحج من إحرام وطواف وسعي ووقوف بعرفة ومبيت بمزدلفة ورمي للجمرات، وتلبية الحاج شعار التسليم (( لبيك اللهم لبيك … )).

أيها المؤمنون: وحقيقة التسليم لله ورسوله أن يسعى العبد في تخليص قلبه من كل إرادة تزاحم الإخلاص لله أو شبهة تعارض الخبر الإلهي، أو شهوة تخالف أمر الله ونهيه، فلا شرك بالله، ولا بدعة في عبادة الله، ولا مداومة على معصية الله، إذ لا نجاة بحج لا تسليم بعده، ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ • إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ الشعراء 88-89، فأيُّ حجٍّ لمن عادَ بعد حجّه يفعل شيئًا من الشِّرك ؟! يأتي المشعوِذين والسّحرة، ويصدِّق أصحابَ الأبراج والتنجيم وأهل الطِّيَرة، ويُعلِّق التمائم والحروز؟! و أيُّ حجٍّ لمن عاد بعد حجِّه مضيِّعًا للصّلاة، مانعًا للزّكاة، آكلاً للرِّبا والرّشا، متعاطيًا للفاحشة، قاطعًا للأرحام، والغًا في الموبقات والآثام؟! …..

إن التسليم لله ورسوله مكانة عظيمة، ومنزلة مرموقة، من تبوءها نال الفضل الرباني، والكرامة الإلهية، فبه فضل أولو العزم على سائر الرسل عليهم السلام، وبه كان إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن واتخذت المشاعر أماكن عبادة إلى يوم الدين، ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ البقرة 130-131، وبه كان محمد ﷺ أفضل الرسل قاطبة، وكان أصحابه خير الأمم بعد الأنبياء ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ الأحزاب 21-22

وبالتسليم لله يحسن دين المرء ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾  النساء 125، فمن سلم قلبه وعقله وجوارحه لفاطره رضي الله عنه وأرضاه، وعاش في حياته بنور من الله على هدي رسول الله ﷺ، ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ لقمان 22

فاتقوا الله أيها المؤمنون: وأعدوا لمصيركم عدته، وتدبروا في عودكم إلى دياركم بعد الحج بعودكم إلى ما منها خلقكم ربكم ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ طه 55

اللهمَّ تقبَّل من الحجّاج حجَّهم، اللهمّ تقبّل من الحجّاج حجَّهم وسعيَهم، اللهمّ اجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، اللهمّ تقبّل مساعيَهم وزكِّها، وارفع درجاتهم وأعلِها، اللهم بلّغهم من الآمال منتهاها، ومِنَ الخيرات أقصاها، اللهمّ اجعل عودَهم إلى بلادهم حميدًا، واغفر لجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، قلت ما قلت الله تعالى أسأل القبول والتوفيق.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها المؤمنون: ها أنتم تودعون عاما هجريا تمضي أيامه عام 1446 هـ، وتستقبلون عاما هجريا جديدا عام 1447 هـ، فليت شعري ماذا أودعتم في العام الذي يمضي؟ وبم تستقبلون العام الجديد؟ وإن التأريخ بهذا العام من وضع ثاني الخلفاء الراشدين المهديين والصحابة معه، فقد ورد أن أبا موسى الأشعري t كتب إلى عمر أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم أرخ بالمبعث، وبعضهم أرخ بالهجرة، فقال عمر t: الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها، وذلك سنة سبع عشرة فلما اتفقوا قال بعضهم ابدءوا برمضان فقال عمر: بل بالمحرم، فإنه منصرف الناس من حجهم فاتفقوا عليه.

إخوتي في الله: إن ذهاب عام ومجيء عام آخر لأمر عظيم يستدعي لزوم غرز النبي ﷺ بشكر المولى على ما أولانا من نعمة الاستبقاء إلى العام الجديد، وذلك فرصة للمؤمن للاستكثار من العام الصالح والتوبة إلى الله من المعاصي، فقد كان من قول بعض السلف: (إني لأنظر إلى من هو أقل مني في العمر فأراه أقل مني معصية وانظر إلى من هو أكثر مني عمراً فأراه أكثر مني طاعة) ، فقد كان النبي ﷺ مثالا حسنا لأمته في شكر الله وهو القائل (أفلا أكون عبدا شكورا) ،فالله – عز وجل – استبقاك في عامك الجديد وأطال في عمرك فخير ما تشكره به على هذه النعمة هو أن  تعبده حق عبادته، فأر الله من نفسك خيرا واعبد ربك حتى يأتيك اليقين، عن عبد الله بن بسر المازني قال: جاء أعرابيان إلى رسول الله ﷺ فقال أحدهما : يا رسول الله ! أي الناس خير؟ قال: طوبى لمن طال عمره، وحسن عمله. وقال الآخر: أي العمل خير؟ قال : أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله ) . رواه الترمذي (2329) وابن ماجة (3793) وصححه الألباني .

  • ويستدعي منا لزوم غرز النبي بإدراك حقيقة الدنيا وما فيها، فالدنيا إما نعمة زائلة، أو بلية نازلة، أو منية قاضية، ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ غافر 39

أيها المؤمنون: اعلموا أن من فضل الله عليكم أن جعل رأس السنة شهرا حراما، وسماه لكم رسول الله ﷺ بشهر الله المحرم، قال تعالى:﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ التوبة 36

ولقد ترك لكم نبيكم في هذا الشهر هديا بالغا، يكفل لمن أخذ به السعادة في الدارين، ومن ذلك:

  • الإكثار من الصيام وفعل الخير فيه: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ) رمسلم .
  • تحري صيام اليوم العاشر والأفضل صيام يوم قبله أو بعده، وفي ذلك نصوص كثيرة منها:

ــ ما رواه البخاري وغيره عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ)

ــ  ما رواه مسلم بسنده  عن إِسْمَعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا غَطَفَانَ بْنَ طَرِيفٍ الْمُرِّيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: (حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ قَالَ فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ).

ــ  وروى مسلم في حديث طويل عن أبي قتادة وفيه ( …….. وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ).

ــ  قال ابن القيم – رحمه الله تعالى-: (مراتب صومه ثلاث، أكملها أن يصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم) ا.هـ زاد المعاد (2/75).

فاتقوا الله أيها المؤمنون: وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتوبوا إلى مولاكم قبل فوات الأوان، وصلوا وسلموا على النذير البشير وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم إنا نسألك خير هذه السنة وخير ما فيها وخير من فيها، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر من فيها، اللهم ما قضيته فيها من خير فاجعل لنا منه أوفر حظ ونصيب، وما قضيته فيها من فتنة وبلاء فاحفظنا وقنا منها إنك خير حافظا وأنت أرحم الراحمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

مشروع خطب الجمعة في إفريقيا
رقم الخطبة عنوان الخطبة معد الخطبة تاريخ المقترح لإلقاء الخطبة المراجعة والنشر
224 وقفات مع نهاية العام الهجري   الشيخ عبد الرحمن السديس خطيب الحرم المكي 24/12/1446هـ  الموافق 20/06/2025م الأمانة العامة

 

الموضوع ” وقفات مع نهاية العام الهجري ”

إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، سبحانه وبحمده أيَّدَنا بمِنَحٍ لألاء، وأوردَنا موارِد الفضل والجُود والآلاء.

وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعلَ لنا من تصرُّم الزمان عِبرًا عِظامًا، وأشهدُ أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه خيرُ الناس قُدوةً وإمامًا، صلَّى الله وبارَك عليه، وعلى آله المُتألِّقين بدورًا وأعلامًا، وصحبِه البالغين من الهمَّة الشمَّاء مجدًا ترامَى، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا ما تعاقَبَ الملَوان وداما.

 

أما بعد: فاتقوا الله – عباد الله -؛ فالتقوى خيرُ زادٍ في المعاش والمعاد، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة: 197].

 

أيها المسلمون: في هذا الأوان الذي جدَحَت فيه يدُ الإملاق كأسَ الفراق، وأوشكَ العامُ على التمام والإغلاق، والتحدياتُ المُحدِقةُ بالأمة عديدة، والأحوالُ أزماتُها شديدة، والأيامُ في لُبِّها بالأماني مُبديةٌ مُعيدة، لا بُدَّ لأهل الحِجَى من وقفات، للعِبرة ومُراجعة الذات، والتفكُّر فيما هو آت.

وهذا ديدَنُ المُسلم الأريبِ اللوذَعيِّ، ومنهجُ اللَّقِن الأحوَذيِّ، حتى لا ينعكِس الأمل، أو يستنوِقَ الجمل، فيُبصِرُ كل إنسانٍ وَسمَ قِدحه، فتترقَّى همَّتُه، وتصفُو نفسُه، وتحسُنُ سيرتُه وسريرتُه.

 

الوقفةُ الأولى: وقفةُ اعتبارٍ وعِظة، لما في مرور الأيام والليالي من عِبرةٍ وموعِظة، فكم من خُطواتٍ قُطِعت، وأوقاتٍ صُرِفت، والإحساسُ بمُضيِّها قليل، والتذكُّر والاعتبارُ بمُرورها ضئيل، مهما طالَت مُدَّتُها، وعظُمَت فترتُها، وربما دامَت بعد ذلك حسرتُها.

ولا يتبقَّى من الزمان إلا ذكرَى ما تبدَّى، وطيفُ ما تجلَّى، وها هو انقلبَ بما لنا وما علينا في مطاوِيه، وآخرُ استهلَّ شاهِدًا على مُضيِّ الدهر في تعادِيه. فاللهم إنا نسألُك أن تُبارِك للأمة فيما قدَّرتَ فيه.

وليكُن منكم بحُسبانٍ – يا رعاكم الله -: أن الزمنَ أنفاسٌ لا تعُود، فمن غفلَ عنه تصرَّمَت أوقاتُه، وعظُم فواتُه، واشتدَّت حسراتُه، فإذا علِم حقيقةَ ما ضاع، طلبَ الرُّجعَى فحِيلَ بينَه وبين الاستِرجاع.

وما المرءُ إلا راكبٌ ظهرَ عُمره *على سفرٍ يُفنِيه باليوم والشهرِ

يبيتُ ويُضحِي كل يومٍ وليلةٍ  * بعيدًا عن الدنيا قريبًا من القبرِ

ومن لم يتَّعِظ بزوال الأيام، ولم يعتبِر بتصرُّم الأعوام، فما تفكَّر في مصيره ولا أناب، ولا اتَّصَف بمكارِم أُولِي الألباب، يقولُ الرحيمُ التواب: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران: 190].

 

فما أحوجَ أمَّتنا في هذه السانِحة البينيَّة أن تنعطِفَ حِيالَ أنوار البصيرة، فتستدرِك فرَطَاتها، وتنعتِقَ من ورطَاتها، وتُفعَمَ روحُها بمعاني التفاؤُل السنيَّة، والرجاءات الربانيَّة، والعزائِم العليَّة، وصوارِم الهِمَم الفتيَّة، كي تفِيءَ إلى مراسِي الاهتِداء والقِمَم، وبدائِع الخِلال والقِيَم، على ضوء المورِد المَعين، والنبع الإلهيِّ المُبين: هديِ الوحيين الشريفين، مُستمسِكةً بالتوحيد والسنَّة بمنهَج سلَف الأمة.

تحقيقًا لقولِ النبي – صلى الله عليه وسلم -: «تركتُ فيكم أمرَين لن تضِلُّوا ما تمسَّكتُم بهما: كتابَ الله وسُنَّتي»؛ أخرجه مالك في “الموطأ”.

باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكرِ الحكيم، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم من كل خطيئةٍ وإثمٍ، فاستغفِرُوه وتوبُوا إليه، إنه هو الغفورُ الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية :

الحمدُ لله مُقدِّر الأزمان والآجال، مُبدِع الكون على غير مِثال، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له ذو الكمال الذي يعجزُ عن وصفِه بليغُ البيان والمقال، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه خيرُ من عبَدَ ربَّه في الغِنى والإقلال، صلَّى الله عليه صلاةً تَترَى في الغُدوِّ والآصال، وعلى آله وصحبِه خيرِ صحبٍ وآل، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم المآل، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: فاتَّقوا الله – عباد الله -؛ فإن تقواه – سبحانه – أوثقُ الوثائِق، وبها تُكشفُ وجوه الحقائِق.

أمة الإيمان: وفي حوالِك الكُروب، ومعامِع الخُطوب، ومُدلهِمَّات الدُّروب، تشرئِبُّ طُلَى أهل الإيمان إلى إشراقات التفاؤُل والنصر وبشائر الانبِلاج، وتتطلَّع إلى أَرَج الانفِراج.

فمع أن أمَّتنا لا تزالُ رهينةَ المآسِي والنَّكَبات، والشَّتات والمُلِمَّات، فلا بُدَّ من الادِّراع بالتفاؤُل والاستِبشار والأمل، فالأملُ يُخفِّف عناءَ العمل، ويذهبُ باليأس والقُنوط والملَل، وبعد حُلكة الليل الشديد تُشرِقُ شمسُ يومٍ جديد.

 

بالتفاؤُل والأمل تتدفَّق روحُ العزيمة، وتتألَّقُ نسَمَاتُ النبُوغ، وتتأنَّقُ بواعِثُ الثقة والتحدِّي.

وهذه القوةُ الأخَّاذة، والكُوَّة النورانيَّة هي من أزاهير الشريعة الربانيَّة، والسيرة المُحمديَّة لرسول الهُدى – صلى الله عليه وسلم -، وإن حياتَه الكريمة – بأبي هو وأمي – عليه الصلاة والسلام – لأُنموذجٌ عمليٌّ للتدرُّع بالتفاؤُل والأمل والاستِبشار، في أحلَك الأزمَات، والنوازِل والمُلِمَّات.

 

وهجرتُه – صلى الله عليه وسلم – حدثٌ لو تعلَمون عظيم، فيه من الدروس والفوائِد، والعِبَر والفرائِد ما لا تحوِيه أجلاد، ولا يُوفِّيه جلَدٌ ولا اجتِهاد. فرغم خروجِه – عليه الصلاة والسلام – من أحبّذ البلاد إليه، إلا أنه كان مُتفائِلاً مُستبشِرًا. ولقد كان حدَثُ الهجرة أمرًا فارِقًا في تأريخ البشرية جمعاء.

ألا فاتقوا الله – عباد الله -، وتفاءَلوا بالخير، واستفتِحوا عامَكم بتوبةٍ نَصُوح من الزلاَّت والسيئات، وداوِموا على الأعمال الصالِحات، وأكثِروا من القُرُبات والطاعات، وسجِّلوا في صحائِف عامِكم الجديد ما يسُرُّكم في دُنياكم وأُخراكم.

ثم صلُّوا وسلِّموا – رحمكم الله – على البشير النذير، والسراجُ المُنير، كما أمرَكم بذلك اللطيفُ الخبير، فقال – سبحانه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

 

ألا وصلوا على البشير النذير …

 

 

 

 

 

مشروع خطب الجمعة في إفريقيا
رقم عنوان الخطبة معد الخطبة التاريخ المقترح لإلقاء الخطبة المراجعة والنشر
223 فضل صلة الرحم الشيخ علي عبد الرحمن الحذيفي  – خطيب الحرم المكي سابقا. 17/12/1445هـ  الموافق 13/06/2025م الأمانة العامة

 

 

الموضوع:” فضل صلة الرحم “

الحمد لله الذي خلقَ من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصِهرًا وكان ربُّك قديرًا، والذي جعل بين العباد وشائِجَ ووصائِلَ ووصَّى بها خيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا ضدَّ لربِّنا ولا نِدَّ وكان الله سميعًا بصيرًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه بعثَه الله بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسِراجًا مُنيرًا، ﷺ وعلى آله وصحبِه صلاةً وسلامًا كثيرًا.:

أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون-، وأدُّوا الحقوق لأربابها، وأوصِلُوها لأصحابِها، يكتُب اللهُ لكم عظيمَ الثواب، ويُجِركم من أليم العقاب.

واعلموا أن ربَّكم -بمنِّه وكرمِه- فصَّل في كتابِه كلَّ شيءٍ، وأرشدَكم رسولُ الهُدى -عليه الصلاة والسلام- إلى ما يُقرِّبُكم من الجنة، ويُباعِدُكم من النار، ويُسعِدكم في هذه الدار.

فبيَّن الحقوق التي لربِّ العالمين على عباده؛ لأن حقَّ الله علينا أعظم مما افترضَه علينا وأكبر مما أوجبَه. وبيَّن الله حقوقَ العباد بعضِهم على بعضٍ لتكون الحياةُ آمنةً مُطمئنَّة، راضِيةً مُبارَكة، تُظِلُّها الرحمة، وتندفِعُ عنها النِّقمة، ويتمُّ فيها التعاوُن، ويتحقَّقُ فيها التناصُر والمودَّة.

فبيَّن حقوقَ الوالدَيْن على الولد، وحقوق الولد على الوالدَيْن، وحقوق ذوي القُربى والأرحام بعضِهم على بعضٍ. وكلٌّ يُسألُ عن نفسِه في الدنيا والآخرة عن هذه الحقوق والواجِبات.  ومن ضيَّع هذه الحقوقَ كان بأخبث المنازِل عند ربِّه الذي هو قائمٌ على كل نفسٍ بما كسَبَت.

عباد الله: إن صِلةَ الرَّحِم حقٌّ طوَّقَه الله الأعناق، وواجبٌ أثقلَ الله به الكواهِل، وأشغلَ به الهِمَم. والأرحامُ هم القراباتُ من النَّسَب، والقراباتُ من المُصاهَرة. وقد أكَّد الله على صِلَة الأرحام وأمرَ بها في مواضِع كثيرة من كتابه، فقال تعالى: ﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ﴾ الإسراء: 26  وجعل الرَّحِمَ بعد التقوى من الله تعالى، فقال -عز وجل    ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا  ﴾ النساء: 1.

ولعِظَم صِلَة الرَّحِم، ولكونِها من أُسُس الأخلاقِ وركائِز الفضائِل وأبواب الخيرات فرضَها الله في جميع شرائع الرسل، فقال تعالى:   ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ البقرة: 83.

وفي حديثِ عبد الله بن سلام – رضي الله عنه- أن النبي – ﷺ – قال أوَّلَ مقامٍ بالمدينة: “أيها الناس: أفشُوا السلامَ، وأطعِموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناسُ نِيام؛ تدخُلُوا الجنةَ بسلامٍ”. رواه البخاري.

وثوابُ صِلَة الرَّحِم مُعجَّلةٌ في الدنيا مع ما يدَّخِرُ الله لصاحبِها في الآخرة؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله – ﷺ – يقول: “من سرَّه أن يُبسَطَ له في رِزقِه، وأن يُنسَأَ له في أثَره فليصِلْ رَحِمَه”. رواه البخاري والترمذي، ولفظُه قال: “تعلَّموا من أنسابِكم ما تصِلُون به أرحامَكم؛ فإن صِلَة الرَّحِم محبَّةٌ في الأهل، مثْرَاةٌ في المال، منسَأةٌ في الأثَر”.

وعن عليٍّ -رضي الله عنه- عن النبي – ﷺ – قال: “من سرَّه أن يُمدَّ له في عُمرِه، ويُوسَّع له في رِزقِه، ويُدفَع عنه ميتةُ السوء، فليتَّقِ اللهَ وليصِلْ رَحِمَه”. رواه الحاكم والبزار.

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسولُ الله – ﷺ -: “إن اللهَ ليُعمِّر بالقوم الديارَ، ويُثمِّرُ لهم الأموال، وما نظرَ إليهم منذ خلقَهم بُغضًا لهم”. قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟! قال: “بصِلَتهم أرحامهم”. رواه الحاكم والطبراني. قال المُنذريُّ: “بإسنادٍ حسنٍ”.

وعن أبي بَكْرة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله – ﷺ -: “ما من ذنبٍ أجدرَ أن يُعجِّل الله لصاحبِه العقوبةَ في الدنيا مع ما يدَّخِرُ له في الآخرة من البَغي وقطيعة الرَّحِم”. رواه ابن ماجه والترمذي والحاكم.

وعن أبي بَكْرة أيضًا قال: قال رسولُ الله – ﷺ -: “إن أعجلَ البرِّ ثوابًا لصِلَة الرَّحِم، حتى إن أهلَ البيت ليكونون فَجَرة فتنمُو أموالُهم، ويكثُر عددُهم”. رواه الطبراني وابن حبَّان.

وصِلَةُ الرَّحِم لها خاصِّيَّةٌ في انشراحِ الصدر، وتيسُّر الأمر، وسَماحة الخُلُق، والمحبَّة في قلوب الخلق، والمودَّة في القُربَى، وطِيبِ الحياة وبركتها وسعادتها.

والمسلمُ فرضٌ عليه صِلَةُ الرَّحِم وإن أدبرَت، والقيام بحقِّها وإن قطعَت ليعظُمَ أجرُه، وليُقدِّم لنفسِه، وليتحقَّقَ التعاوُنُ على الخير؛ فإن صِلَة الرَّحِم وإن أدبَرَت أدعَى إلى الرجوع عن القطيعة، وأقربُ إلى صفاء القلوب.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلاً قال: يا رسول الله ﷺ : إن لي قرابةً أصِلُهم ويقطَعوني، وأُحسِنُ إليهم ويُسيئُون إليَّ، وأحلُمُ عليهم ويجهَلون عليَّ. فقال: “إن كنتَ كما قلتَ فكأنَّما تُسِفُّهم المَلَّ -أي: الرماد الحارّ-، ولا يزالُ معك من الله عليهم ظَهيرٌ ما دُمتَ على ذلِك”. رواه مسلم.

وعن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما- عن النبي – ﷺ – قال: “ليس الواصِلُ بالمُكافِئ، ولكنَّ الواصِل الذي إذا قُطِعَت رَحِمُه وصَلَها”. رواه البخاري.

وقطيعةُ الرَّحِم شُؤمٌ في الدنيا ونكَدٌ، وشرٌّ وحرجٌ، وضيقٌ في الصدر، وبُغضٌ في قلوب الخلق، وكراهةٌ في القُربَى، وتعاسةٌ في أمور الحياة، وتعرُّضٌ لغضب الله وطردِه.

وتكون الرَّحِمُ والأمانةُ على جانِبَيْ الصِّراط تختطِفُ من ضيَّعَها فتُردِيه في جهنَّم، كما في الحديث الذي رواه مُسلم.

فعقوبتُها أليمةٌ في الآخرة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله – ﷺ -: “إن الله خلقَ الخلقَ حتى إذا فرغَ منهم قامَت الرَّحِم فقالت: هذا مقامُ العائِذِ بك من القَطيعة. قال الله: نعم، أما ترضَين أن أصِلَ من وصَلَكِ، وأقطعَ من قطعَكِ؟! قالت: بلى. قال: فذاك لكِ”، ثم قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: “اقرؤوا إن شِئتُم   ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ محمد: 22، 23 “. رواه البخاري ومسلم.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أيضًا قال: سمعتُ رسولَ الله – ﷺ – يقول: “إن أعمالَ بني آدمَ تُعرضُ كلَّ خميسٍ ليلة الجُمعة، فلا يُقبَلُ عملُ قاطِعِ رَحِمٍ”. رواه أحمد.

وعن الأعمَش قال: كان ابن مسعود -رضي الله عنه- جالِسًا بعد الصبح في حلقَةٍ، فقال: “أنشُدُ الله قاطِعَ رَحِمٍ لمَّا قامَ عنَّا، فإنا نريدُ أن ندعُوَ ربَّنا، وإن أبوابَ السماء مُرتَجَة دون قاطعِ رَحِمٍ”. رواه الطبراني.

وعن أبي موسى -رضي الله عنه- أن النبيَّ – ﷺ – قال: “ثلاثةٌ لا يدخُلون الجنة: مُدمِنُ الخمر، وقاطِعُ الرَّحِم، ومُصدِّقٌ بالسِّحر”. رواه أحمد والطبراني والحاكم.

أيها المسلمون: إن صِلَة الرَّحِم هي بذلُ الخير لهم، وكفُّ الشرِّ عنهم. هي عيادةُ مريضِهم، ومُواساةُ فقيرهم، وإرشادُ ضالِّهم، وتعليمُ جاهِلِهم، وإتحافُ غنيِّهم والهديةُ له، ودوامُ زيارتِهم، والفرحُ بنعمتهم، والتهنِئةُ بسُرورهم، والحُزنُ لمُصيبَتهم، ومُواساتُهم في السرَّاء والضرَّاء، وتفقُّدُ أحوالهم، وحِفظُهم في غيبَتهم، وتوقيرُ كبيرهم، ورحمةُ صغيرِهم، والصبرُ على أذاهم، وحُسنُ صُحبَتهم والنُّصحُ لهم.

وفي مراسِيل الحسن: “إذا تحابَّ الناسُ بالألسُنِ، وتباغَضُوا بالقلوب، وتقاطَعُوا بالأرحام؛ لعنَهم الله عند ذلك فأصمَّهم وأعمَى أبصارَهم”.

وإن القطيعةَ بين الأرحام في هذا الزمانِ قد كثُرَت، وساءَت القلوب، وضعُفَت الأسبابُ، وعمت هذه القطيعَة على الدنيا الحقيرة، وعلى الحُظوظ الفانِية.

فطُوبَى لمن أبصرَ العواقِب، ونظرَ إلى نهاية الأمور، وأعطَى الحقَّ من نفسِه، وأدَّى الذي عليه، ورغِبَ إلى الله في الذي له على غيرِه، وأتَى إلى الناسِ ما يُحبُّ أن يأتُوه إليه.

وإن القطيعةَ المشؤومةَ قد تستحكِمُ وينفخُ الشيطانُ في نارِها، فيتوارَثُها الأولادُ عن الآباء، وتقعُ الهلَكةُ، وتتسِعُ دائرةُ الشرِّ، ويكونُ البغي والعُدوان، وتدومُ هذه القطيعةُ بين ذوِي الرَّحِم حتى يُفرِّق بينهم الموتُ على تلك الحالِ القبيحة.

وعند ذلك يحضُرُ الندَم، وتثُورُ الأحزان، وتتواصَلُ الحسَرات، وتتصاعَدُ الزَّفَرَات، وعند ذلك لا ينفعُ النَّدَم، ولا يُداوِي الأسفُ جِراحاتُ القلوب، ويترُكون جيفَةَ الدنيا بعدَهم، فلا لقاءَ إلا بعد البعثِ والنُّشورِ. فيجثُو كلٌّ أمام الله الحكَم العدل فيقضِي بينَهم بحُكمِه وهو العزيزُ العليمُ.

والصبرُ والاحتِمالُ والمعروفُ والعفوُ خيرُ الأمور، وأفضلُ دواءٍ لما في الصدور؛ عن عُقبة بن عامرٍ -رضي الله عنه- قال: لقيتُ رسولَ الله – ﷺ – فأخذتُ بيدِه، فقلتُ: يا رسول الله: أخبِرني بفواضِل الأعمال. فقال: “يا عُقبةَ: صِلْ من قطَعَك، وأعطِ من حرَمَك، وأعرِض عمَّن ظلَمَك”. وفي روايةٍ: “واعفُ عمَّن ظلَمَك”. رواه أحمد والحاكِمُ.

أيها المسلمون: إن المرأةَ قد تكونُ من أسبابِ القطيعة بنقلِها الكلام، وبثِّها المساوِئ، ودفنِها المحاسِن، وتحريشِها للرِّجال، وقد ترى لحماقتِها أن لها في ذلك مصلَحة، وقد تدفعُ أولادَها في الإساءَة لذوِي القُربَى، فعليها يكونُ الوِزرُ، والله لها بالمِرصَاد.

وقد تكونُ المرأةُ من أسبابِ التواصُل بين الأرحام، وتوطِيد المودَّة بينَهم بصبرِها ونصيحَتها لزوجِها، وحثِّها على الخير، وتربية أولادها، والله سيُثيبُها، ويُصلِح حالَها، ويُحسِنُ عاقِبَتها.  فيا أيتها المُسلِمات: اتَّقينَ اللهَ تعالى، وأصلِحن بين ذوِي القُربَى، ولا تكُن القطيعةُ من قِبَلكنَّ؛ فإن الله لا يخفَى عليه خافيةٌ.

قال الله تعالى: ﴿ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ الروم: 38.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعَنا بهدي سيِّد المرسلين ، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أحمدُ ربِّي وأشكُرُه، وأتوبُ إليه وأستغفِرُه، وأشكرُه على فضلِه العَميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليمُ الحكيم، وأشهد أن نبيِّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه الهادِي إلى صِراطٍ مُستقيم، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه ذوِي النَّهج القويم، اللهم صلِّ وسلِّم عليه كثيرًا.

أما بعد:  فاتقوا الله عباد الله؛ فتقوى الله أربَح بِضاعة، والعُدَّةُ لكل شِدَّةٍ في الدنيا ويوم تقومُ الساعة.

أيها المسلمون: عظِّموا أوامرَ الله بالعمل بها، وعظِّموا ما نهى الله عنه باجتِنابه   ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾  ) [البقرة: 281]، وأدُّوا حقوقَ ربِّكم، وحقوقَ عباده؛ فذلك هو الفوزُ العظيم.

واعلموا -عباد الله- أن الله -تبارك وتعالى- لا تخفَى عليه خافِية، يُحصِي عليكم، فاعمَلوا للدار الآخرة صالِحَ الأعمال؛ فإنها دارُ القرار لا ينفَدُ نعيمُها، ولا يبلَى شبابُها، ولا تخرمُ دارُها، ولا يموتُ أهلُها. واتَّقوا نارًا وقودُها الناسُ والحِجارة، عذابُها شديدٌ، وقعرُها بعيدٌ، وطعامُ أهلها الزقُّوم، وشرابُها المُهلُ والصَّديد، ولِباسُهم القَطِرانُ والحديد.

واعلَموا أن لله عملاً بالليل لا يقبَلُه بالنهار، وعملاً بالنهار لا يقبَلُه بالليل، وأعمالُ العباد هي ثوابُهم أو عقابُهم، قال الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾  الجاثية: 15.

وفي الحديث عن النبي – ﷺ – عن ربِّه أنه قال: “يا عبادِي: إنما هي أعمالُكم أُحصِيها لكم، ثم أُوفِّيكم إياها، فمن وجدَ خيرًا فليحمَد الله، ومن وجدَ غيرَ ذلك فلا يلُومنَّ إلا نفسَه”. رواه مسلم من حديث أبي ذرٍّ -رضي الله عنه-.   وتذكَّروا تطايُرَ صُحُف الأعمال، فآخِذٌ كتابه بيمينه، وآخِذٌ كتابه بشِماله، وما ربُّك بظلاَّمٍ للعبيد.

عباد الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ الأحزاب: 56، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: “من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا”. فصلُّوا وسلِّموا على سيِّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.

 

 

مشروع خطب الجمعة في إفريقيا
رقم عنوان الخطبة معد الخطبة التاريخ المقترح لإلقاء الخطبة المراجعة والنشر
222 تقوى الله د. أحمد عبد الله بُولي ـــ عضو الاتحاد في مالي 10/12/1446هـ  الموافق 06/06/2025م الأمانة العامة

 

 

الموضوع:تقوى الله

الحمد لله الذي أعدّ السعادة الأبدية لعباده المتقين نشهد أن لا إله إلا هو إله الأولين والآخرين، ونصلي ونسلّم على إمام المتقين محمد وعلى آله الأتقياء وصحبه المتقين، ومن تبع نهج التقوى إلى يوم ينفع المتقين تقواهم.

عباد الله:

أوصيكم وإياي بتقوى الله عزّ وجلّ في المخبر والمظهر، ولنعلم أن التقوى هي وصيّة الله للأولين والآخرين، فقد قال سبحانه في محكم تنزيله: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا﴾ النساء 131

 

ولنعلَمْ أن التقوى وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمته جمعاء، فقد قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه للرسول أوصني، فقال له عليه الصلاة والسلام:

(عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ…) أخرجه الإمام أحمد. وكان الرسول لا يبعث أميرا على سرية إلا أوصاه بالتقوى.

 

ولنعلم أن التقوى وصية السلف الصالح كذلك، فهذا أبوبكر t يقول في خطبته:

أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله وأن تثنوا عليه بما هو أهله.

وهذا عمر بن الخطاب t كتب إلى ابنه عبد الله: أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله، فإن من اتقاه وقاه.

واستعمل علي t على سرية رجلاً فقال له: أوصيك بتقوى الله عز وجل الذي لا بد لك من لقائه وهو يملك الدنيا والآخرة.

 

 

ولكن ما هي التقوى ؟

يجيب على هذا السؤال خرّيج جامعةٍ محمد الصحابيّ الجليل أبو هريرة t،

 قال: هل أخذت طريقا ذا شوك، قال السائل: نعم، قال: فكيف صنعت ؟

قال: إذا رأيت شوكا عزلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه، قال: ذاك التقوى.

وقال ابن مسعود t: التقوى أن يطاع الله فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.

 

وإليكم أهمَّ سمات المتقين :  

  • إقامة الشعائر التعبدية كالصلاة والصيام وغيرهما بإقامة ظاهرها كإتمام وتدبّر ما يقوله ويفعله، وهذا العنصر الأخير هو الفارق بينهم وبين غيرهم.
  • الإنفاق في سبيل الله بنفس مطمئنّة لا تخاف الفقر.
  • الصبر والمصابرة، قال تعالى عنهم: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ البقرة 177

 الخلق الحسن الذي يصل إلى درجة ضبط العواطف، وتحمّل سيّئات الآخرين، فهم كاظمون لغيظهم عافون عن الناس.

 ومن سماتهم أنهم رجّاعون توّابون لما يبدر عنهم من أخطاء، فسرعان ما يستغفرون ربهم مبتعدين عن الكبر والعُجب أو التهاون بالصغائر.

 قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ الأعراف 101.

 

 

ثمرات التقوى في العاجل والآجل:

أيها الأخ المسلم فإن التقوى بهذا المعنى يضفي على صاحبها آثارا عظيمةً في الدنيا والآخرة وعلى المجتمع، ودونكم غيضًا من فيض:

  • التقوى سبب لتيسير أمور الإنسان، قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا @ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ الطلاق 2 ـ 3

 وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ الطلاق 4، وإن في قصة عوف بن مالك الأشجعي لعبرةً للمعتبرين.

قال أكثر المفسرين فيما ذكر الثعلبي إن هذه الآية نزلت في عوف بن مالك الأشجعي روى الكلبي عن أبي صالح عن بن عباس قال: جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى النبي فقال يا رسول الله: إن ابني أسره العدو وجزعت الأم، فما تأمرني فقال : (اتق الله واصبر وآمرك وإياها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فعاد إلى بيته وقال لامرأته: إن رسول الله أمرني وإياك أن نستكثر من قول (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فقالت نِعْمَ ما أمرنا به فجعلا يقولان، فغفل العدو عن ابنه فساق غنمهم وجاء بها إلى أبيه، وهي أربعة آلاف شاة؛ فنزلت الآية. تفسير القرطبي ج18 ص160

 

  • التقوى سبب لفتح البركات من السماء والأرض وحصول الأرزاق على الفرد: المتقي، والمجتمع المتقي، يقول الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ الأعراف 96
  • التقوى سبب لنيل ولاية الله، فقد قال تعالى: ﴿إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ﴾ الأنفال 34

 

الله أكبر، والعاقبة للمتقين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

  

 

الخطبة الثانية

الحمد لله ولي المتقين، والصلاة والسلام على إمام المتقين.

عباد الله:

اعلموا أن ثمرات التقوى كثيرة، ومنها علاوةً على ما سبق:

  • التقوى عامل قويّ لعدم الخوف من كيد الكائدين وضرر الكافرين، وحسد الحاسدين، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ﴾ آل عمران 120
  • التقوى سبب لنيل العلم وحصول بركته، فقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ الأنفال 29
  • أهل التقوى تحصل لهم البشرى والاطمئنان في الحياة سواء أكان بالرؤيا الصالحة أو بمحبة الناس لهم، والثناء عليهم، ثم يحفظهم الله في ذريتهم من بعد مماتهم، قال سبحانه: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ @ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ @ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ يونس 62-64

 

عباد الله:

فسقياً لإيماننا وتزوّداً من التقوى علينا أن نكثر من الصيام في هذا الشهر شهر شعبان، فعن عائشة رضي الله عنها قالت:

(لم يكن النبي  يصوم من شهر أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كله)، وفي رواية (كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا) متفق عليه.

 

ألا وصلّوا وسلّموا على الرسول التقي وعلى آله وصحبه وسلّم.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.