الفرنكوفونية..أم الواجهة لـ“فُرنسافريقا” الجديدة!
بقلم الدكتور: حامد كرهيلا
غداة توقيع بلادنا مع شريكها المفضل –فرنسا– على برتوكول دعم اللغة الفرنسية وتنميتها في الجزر القمرية المستقلة، بمظروف قيمته فقط مليون يورو لاغير، تتجه الأنظار صوب كنشاسا، عاصمة جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي تحتضن في رحابها القمة الفرنكوفونية الرابعة عشرة في ظل تجاذبات سياسية، وتهديدات أمنية، ومقابر جماعية في قارتنا السمراء، التي تمثل الحديقة الخلفية للجمهورية الفرنسية، من خلال رجالات باريس في القارة، وشبكاتها المافيوية، وأجهزتها الأمنية والتجسسية القائمة على ما بات يعرف سياسيا وإعلاميا بـ” فرنسافريقا” التي، أطلق لها العنان، دون رقيب ولا حسيب، فعاثت في طول القارة وعرضها فسادا ودمارا على مدى العقود الخمسة الماضية.
وفي هذا السياق ، لا يخفى على كل ذي بصيرة، الماضي الكالح للاستعمار الفرنسي في أفريقيا، و في بلادنا –على وجه التخصيص والتحديد– ، وما تمخض عن ذلك، في مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر، من آثار سلبية كارثية مدمرة، من حيث الحصاد المر، ومخلفات ذلك الماضي المؤلم المظلم. فالجهل، والتخلف، والمرض، والتبعية، والعمالة، والخيانة، واللامسؤولية، وثقافة اختلاس المال العام، والاستبداد، وتزوير الانتخابات والفواتير، وتزييف الإرادات الشعبية، وشراء الذمم والأصوات والولاءات، والمحسوبية، والزبونية الحزبية، والدعارة السياسية، كلها أوبئة قاتلة مزمنة، وافدة إلي بيئاتنا ومجتمعاتنا، ومنقولة إلينا – بقصد و مع سبق إصرار– من مستعمرتنا السابقة، التي لم تأل جهدا، طوال فترة الاستعمار المباشر، في ابتكار وممارسة ضروب وألوان الإذلال والاضطهاد والتعذيب والاستلاب الفكري والثقافي والتخدير العقلي ضدنا، لقتل ذاتيتنا، وخنق مواهبنا، وشل قدراتنا، ونهب ثرواتنا الاقتصادية والثقافية، بهدف إبقائنا في المرحلة اللاحقة ضعفاء خانعين راضين بالدون كأنه قدرنا المحتوم، راجين على الدوام رحمة مساعدتها، التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وتحت وطأة المن والأذى. ولعل القارئ العزيز ما زال يذكر، والأسى يعصر قلبه، ما قاله أحد السفراء الفرنسيين لدينا، أمام سمعنا وبصرنا ووسائل إعلامنا، عند ما قال ساخرًا منا ومنتقصًا لسيادتنا الوطنية: «إن بلادنا لا تستطيع تمويل انتخاباتها لاختيار قياداتها».
فعلاقاتنا التاريخية التي تعود إلى ما قبل 170 سنة، ومصالحنا المتشابكة المشتركة مع هذه الشقيقة الكبرى في الأسرة ” الفرنكوفونية” لم تمنعها من بتر «الرجل الرابعة للبقرة القمرية»- حسب تعبير الرئيس الراحل أحمد عبد الله بن عبد الرحمن– بفصل مايوت عن شقيقاتها الثلاث، وتحريك آلة “البلقنة” ونشر عدم الاستقرار السياسي في الجزر المستقلة، بعد أن كبَّلتها منذ 1978 بحزمة من معاهدات واتفاقيات: دفاعية أمنية لا تمنع من وقوع الانقلابات العسكرية وقيام الحركات الانفصالية، واقتصادية مالية لا تحارب الفقر ولا تقضي على البطالة، وثقافية تربوية تنمي التبعية والاتكالية والجهل بحقوق وواجبات الوطن والمواطن، ودبلوماسية تعاونية تنتزع التنازلات، وتبتز بالمساعدات، وتكرس الاستسلام للواقع المرير.
لذا فإن مبادرات فرنسا لتعليمنا وتلقيننا– من خلال المنظمة الدولية للفرنكوفونية– بدروس في الديمقراطية، ودولة القانون، واحترام حقوق الإنسان، واستقلال القضاء، والتداول السلمي للسلطة، والرشد في الحكم، وحماية البيئة، وحقوق المواطنة، وعدالة توزيع الثروات، وتكافؤ الفرص، والاهتمام بالتعليم، والنهوض بالصحة، وعناية بالطفل والمرأة، ما هي إلا مزاعم تعوزها الواقعية والمصداقية، بل هي في الواقع مفردات خالية عن معانيها، لا توجد أساسا في موسوعة السياسة الفرنسية اليمنية الديغولية واليسارية الاشتراكية إزاء بلادنا. ولا يصدق بمثل هذه الإدعاءات الرخيصة، من بني جلدتنا، إلا واهم أومغفل.. فمن وقف وراء الانقلابات؟ ومن دعم وساند أنظمة القمع والفساد والاستبداد والمرتزقة في بلادنا؟ ومن أوعز قتل رؤسائنا؟ ولماذا نجحت فرنسا في إقامة البنية التحتية في مايوت خلال ثلاثة عقود، وعجزت عن ذلك في مجموع الأرخبيل في أكثر من قرن ونصف قرن؟ وهل تعجز فرنسا، إن كانت جادة وصادقة، عن جمع القمريين مع إخوانهم في مايوت على طاولة حوار لإيجاد حل تفاوضي مرض يضمن مصالح جميع الأطراف؟ ولماذا لهذه الدولة الصديقة قاعدة عسكرية في جيبوتي، وهي دولة عربية فرنكوفونية أفريقية على غرار بلادنا، لا نضمن لها مثلها في مايوت بل وفي غيرها من الجزر، مقابل وحدة بلادنا وسلامة أراضيها ووضع حد للمقبرة الجماعية المحرجة لنا جميعا، والتي تظل وصمة عار على جبين تاريخنا المشترك؟ ولماذا لا تهيئ الظروف الموضوعية الجالبة للوحدة بين الإخوة الفرقاء للخروج من هذا النفق المظلم؟
إن قمة كنشاسا الفرنكوفونية ستنظر في عدة أوراق ساخنة، من بينها أزمة جمهورية مالي التي انتزعت فرنسا موافقة مجلس الأمن الدولي على التدخل العسكري، لأجل الحفاظ على الوحدة الترابية لمالي وسلامة أراضيها، وإنقاذ حياة لفيف من المواطنين الفرنسيين، من فصيلة الدرجة الأولى– على ما يبدو– الذين تحتجزهم القاعدة في شمال مالي، بينما تستمر فرنسا نفسها في احتلالها لجزيرتنا، متوعدة باستخدام حق النقض ضد بلادنا فيما يتعلق بوحدة ترابها وسلامة أراضيها، متغاضية تماما عن المنادات والمناشدات لإنقاذ أرواح ألوف الأطفال والنساء والرجال، ضحايا “فيزا بالادير“. فهذا التناقض المفضوح، والكيل بمكيالين، هو الذي لا نرضاه إطلاقا من شريكنا التقليدي المفضل، الذي دأب بعضنا –بحق أو بدون –على وصفه بالمثل القمري” لحم الرقبة“، بمعنى أنه يصعب تناوله أوالاستغناء عنه في حالة عدم وجود غيره على الطاولة. وليس معنى ذلك أننا ندعو إلى التمرد والخروج من بيت الطاعة، وإنما إلى القسط والعدل، والاحترام المتبادل، وعودة الحق المسلوب إلى ذويه، لكي نضفي للفرنكوفونية نكهتها ورونقها، ولقممها مصداقيتها وفعاليتها، ولعلاقات التعاون جديتها وثمارها. كما لا يفهم بحال من الأحوال أننا نعادي اللغة الفرنسية والفرنكوفونية– كثقافة – كلا! إننا نعشق لغة “موليير“، ونهوى مبادئ الثورة الفرنسية، ونتناول –بنهم شديد– الرغيف و“الكروسان” الفرنسيين المتميزين، ولا يزايد علينا أحد في هذه المسألة البالغة الحساسية، ولكن الذي نكرهه ونستاء منه أن تتحول الفرنسية من لغة التفاهم والمعرفة والعلم إلى أداة للاحتواء الفكري والتركيع السياسي، وأن يتم تفريغ الفرنكوفونية من محتواها الثقافي وبعدها الإنساني إلى آلية طيعة للهيمنة والتسلط وتنفيذ الأجندات الاستعمارية القديمة الجديدة، أو بمعنى آخر سلخ الفرنكوفونية من مضامينها وأهدافها ولافتاتها المعلنة إلى مجرد واجهة لـ“فرنسا فريقا” جديدة مقنَّعة، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وهلاك “بوب دينار” و“جاك فكار“.
أضف تعليقاً