بنـين ..الفجر الجديد
كتبه: الباحثة أمينه العريمي *
فى تاريخ : 01. مارس. 2016
تابع القراءة
بنين (والمعنية بها هنا هي الدولة الجمهورية التي تقع في غرب إفريقيا، خلافا لمدينة بينين النيجيرية)، أو مملكة “داهومي” كما كان يطلق عليها منذ القدم، ودولة الملوك اليوم كما أسمتها لجنة التراث الثقافي الإنساني لليونسكو منذ عام 1985، بسبب إحتضانها لأجمل القصور الملكية المُكتسحة بالإحمرار الداكن والتي تقول الأسطورة الأفريقية إن ذلك الأحمرار الداكن ما هو إلا دماء الأعداء من المستعمرين البرتغاليين والفرنسيين وحتى من القبائل الأفريقية الأخرى الذين حاولوا غزو مملكة داهومي فتم قتلهم وخلط دمائهم بطين الأرض لتشييد تلك القصور التي تمتد على مساحة واسعه تزيد عن 48 هكتاراً. أسس الملك هويغبادغا في القرن السادس عشر مملكة داهومي وتعاقب عليها منذ عام 1625 إلى 1900 إثنا عشر ملكاً ، قام كل واحد منهم بإستثناء إثنين بتشييد قصره، وحافظوا على النمط المعماري لقصور الملوك الذين سبقوهم ، وكان أولئك الملوك يعتنقون ديانة تسمى ( الفودو) التي مازالت تُمارس شعائرها حتى اليوم ويعتنقها عدد كبير من سكان بنين، في حين يرى بعض المؤرخين أن مملكة داهومي تأسست على يد عرقية ” الأدجا ” الذين قدموا من توغو وإستوطنوا منطقة أبومي وتزاوجوا مع عرقية “الفون” التي كانت متواجدة في تلك المنطقة قبل وصول ” الأدجا” مما خلق عرقية جديدة عُرفت بإسم “داهومي “، وكان أول حاكم لتلك المملكة هو ” جانجنيهيسو “، الذي قام على تقوية المملكة التي إمتلكت ثقافة عسكرية نجحت في تأمين حدود المملكة، ومن الجدير بالذكر أن تلك المملكة العظيمة كانت توجد بها كتيبة عسكرية نسائية تسمى ” أهوسي” بمعنى ” أمهاتنا” بلغة الفونجبي ، أما المستعمرون الأوروبيون فأسموها ” سبارتا السوداء”، ومن الجدير بالذكر أن بنين اليوم تخشي على تراثها القديم من السرقة بعد زيادة عدد السكان الذي دفع بعضهم إلى محاولة إحتلال تلك القصور القديمة التي تقف شامخة منذ الأف السنين ليتخذوها مساكن لهم ولكن وجود سياسة سلطة الإشراف الخاصة بحماية الموروثات الثقافية للبلاد تحول دون ذلك ، إلا أن ما يعترض تلك السياسة ضعف التعزيزات الأمنية للوحدات التي تحرس تلك المملكة القديمة. أما العاصمة البنينية كانت تُعرف بإسم “هوغبونو” وقامت بتأسيسها عرقية “الأدجا” التي مازالت تشكل مكون عرقي أساسي في المجتمع البنيني، وبعد إحتلال لشبونه لمملكة داهومي من القرن الخامس عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر قاموا بتغيير إسم العاصمة من مسماها الأفريقي “هوغبونو” إلى “بورتو نوفو” ومعناها الميناء الجديد، ومن الجدير بالذكر أن إسم بورتو يحمل اليوم إسم منطقة ونادي رياضي وأكبر جامعه أكاديمية في البرتغال، أما كلمة “نوفو” فهو نظام أسسه “أنطونونيو دو سالازار” لحكم البرتغال من عام 1932 إلى عام 1974، وكان يسمى بــ (نوفو إستادو) بمعنى الدولة الجديدة.
بعد أن حول البرتغاليون ساحل مملكة داهومي إلى ساحل تجارة الرقيق، غادرت أخر سفينة برتغالية ساحل مملكة داهومي عام 1885 ، وبعدها جاء الفرنسيون 1892 وساهموا بإضعاف مملكة داهومي، وقاموا بضم تلك المنطقة إلى المستعمرات الفرنسية الواقعه في السودان الغربي عام 1892، حتى نالت داهومي إستقلالها عن فرنسا عام 1960 بقيادة هوبير ماغا أول رئيس للبلاد بعد الإستقلال ، ولكن سرعان ما تم الإنقلاب عليه بقيادة حارسه الشخصي ” ماثيو كيريكو” الذي كان مُلتحقاً بالمدرسة الحربية الفرنسية وأعلن نفسه رئيساً للبلاد ، وفرض الماركسية اللينينية كأيدولوجية رسمية للدولة ، كما قام بتغيير إسم الدوله من داهومي إلى جمهورية بنين الشعبية، تيمناً بخليج بنين المقابل للعاصمة بورتو نوفو، وتم إختيار إسم بنين لكونه مُحايداً ، لأن مملكة داهومي السابقة شملت الجزء الجنوبي للبلاد فقط. تحت وطأة الإحتجاجات الشعبية وإزدياد الدين الخارجي حاول النظام السياسي بقيادة ” ماثيو كيريكو” تمويل نفسه عن طريق التعاقد بتصريف النفايات النووية الفرنسية إلا أن سوء الأوضاع الإقتصادية وإنهيار النظام المصرفي، أسقط الماركسية اللينينية وتولى ” نيسيفوري سوجلو” رئاسة الوزراء، وإتبعت الدولة برنامجاً للإصلاح الإقتصادي، وتم الإستفتاء على الدستور الجديد، وتم الإعتراف بالتعددية السياسية، وتغيير إسم الدولة في الأول من مارس 1990 من جمهورية بنين الشعبية إلى جمهورية بنين. تعتبر بنين اليوم من قلائل الدول الأفريقية التي تحصد الثناء وعلى الصعيد الدولي بسبب نجاح الإنتخابات العادلة المتعددة الأحزاب التي تجرى في أراضيها ورغم سجلها الديموقراطي القصير إلا أن بنين تعتبر اليوم نموذج للديموقراطية في أفريقيا، كما سجلت بنين رصيداً عالياً في مؤشر إبراهيم للحكم الرشيد لعام 2008 في أفريقيا والذي يقيس حالة الحكم عبر القارة، وحصلت بورتونوفو على المرتبة 13 من بين الدول الأفريقية جنوب الصحراء، وسجلت رصيداً جيداً في فئات السلامة والأمن والمشاركة وحقوق الإنسان. بنين اليوم عضو في منظمة تنسيق قانون الأعمال في أفريقيا (أوهادا)، وهذا ما يدعم فرص بنين في النمو الإقتصادي وإزدهار سوق العمل فيها سببه إلزامية ومجانية التعليم ، فالرسوم الدراسية ألغيت في بورتونوفو تنفيذاً لتوصيات المنتدى التربوي ، وتعمل وزارة التعليم على تطوير الكوادر التعليمية وإرسال وفود من الطلاب تتجاوز أعدادهم 210 طالب وطالبة على نفقة الدولة للدراسة في الخارج وفي كل المجالات، أما الوضع الصحي للسكان فلقد تطور بشكل إيجابي بفضل مبادرة باماكو عن طريق إدخال إصلاحات في نظام الرعاية الصحية مبنية على المجتمع، مما أدى إلى توفير خدمات أكثر كفاءة،كما قامت الحكومة مؤخراً بدعم إستراتيجية شاملة لجميع مجالات الرعاية الصحية، مع تطوير مؤشرات الرعاية الصحية، كما أن إقتصاد بنين في حالة تطور وذلك بالتركيز على السياحة، وتسهيل وضع نظم جديدة لتجهيز الأغذية والمنتجات الزراعية، وتشجيع التكنولوجيا الجديدة، وبرزت مشاريع لتحسين مناخ الأعمال من خلال إصلاحات لنظام حيازة الأراضي، ونظام العدالة التجارية، وقدم المجتمع الدولي لبنين منحة حساب تحدي الألفية، كما خفض نادي باريس والدائنون الديون الخارجية لبنين، إلا أن بورتو نوفو تشكو من عدم كفاية الإمدادات الكهربائية التي لا تزال تؤثر سلباً على النمو الإقتصادي رغم أن الحكومة في الآونة الأخيرة إتخذت خطوات لزيادة الإنتاج المحلي في مجال الطاقة. تعتبر بنين واحدة من أكثر الدول إلتزاما بمبادئ الإتحاد الإقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا (الأيموا) ، كما أن بورتو نوفو عضو في برنامج (ACP) وهو برنامج يختص بتطوير السياسات التنموية للدول النامية في مختلف أرجاء العالم بجانب توفير الدعم من الإتحاد الأوروبي ، ومن ثم يعد البرنامج فرصة لنفاذ صادرات الأيموا إلى العالم الخارجي . الإدارة الإقتصادية الرشيدة والإستقرار السياسي من الأمور التي ساعدت جمهورية بنين على الإرتقاء بمستوى أداء الإقتصاد، ويمكن القول أن بنين قد حققت النتائج المرجوة في ثبات الإقتصاد الكلى وإصلاح المالية العامة، وهذا ما يترجمه نشيدها الوطني الذي يحمل شعار ” الفجر الجديد”. في مقابل هذا التطور الإقتصادي الذي لا تخطئه العين عند زيارة بورتونوفو إلا أن هناك شي غريب لفت نظري عند زيارتي لإحدى القرى في دولة “الفجر الجديد” ، إنني رأيت رجلاً ظاعناً في السن يحمل بين خاصرتيه دمى تشبه تلك الدمى التي يلهو بها الأطفال وبعد حديث طويل تجاذبته معه حول جمال وسحر الطبيعة وإشتمام عبق التاريخ في منطقة أبومي ، إستأذنته بطرح سؤالي حول سر إهتمام وحرص الرجال والنساء على حمل الدمى الخشبية، فكانت إجابته ” سيدتي نحن أُناس ننتمي إلى عرقية “الفون” نتميز عن باقي العرقيات بكثرة ولادة نساءنا لتوائم فإذا مات التوائم وهذا غالباً ما يحدث بسبب إنتشار مرض الملاريا، نقوم بصنع دمى للتوائم المتوفين لأننا نؤمن بأن أرواحهم تسكن تلك الدمى التي لابد من رعايتها والإهتمام بها حتى لا تصب لعنتها على الأسرة بكاملها ” (إنتهى كلام الرجل الطاعن في السن ). غادرت أبومي إلى بورتونوفو ومنها إلى كوتونو( أكبر مدينة في البلاد ) إستعداداً للسفر إلى وجه أفريقية أخرى أعلم يقيناً إنها تمتلك جميع التناقضات كما تمتلك جميع الحقائق .
أضف تعليقاً