مشروع خطب الجمعة في إفريقيا | ||||
رقم الخطبة | عنوان الخطبة | معد الخطبة | تاريخ المقترح لإلقاء الخطبة | المراجعة والنشر |
76 | الشيخ علي الحذيفي خطيب المسجد النبوي | 03/03/1444هـ الموافق 30/09/2022م | الأمانة العامة |
الموضوع:” خطورة البدع “
الحمد لله ذي العزَّة والجبروت، والكبرياء والعظمة والملكوت، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحي الذي لا يموت، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله أحيا الله به القلوب وأنار به البصائر، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أعلام الهدى، وأنوار الدُّجَى.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، فقد جمع الله – عز وجل – الخير كله في طاعته، وجمع الشر كله في معصيته.
عباد الله: خذوا أنفسكم بحقائق الدين الإسلامي، وألزِموا أنفسكم بكتاب ربكم وسنة نبيكم محمد ﷺ، وتمسَّكوا بالهدي النبوي العظيم، فأنتم ترون كثرة المسلمين في هذا الزمان، ولكن مع هذه الكثرة فرَّقتهم البدعُ والأهواء، وأضعَفَهم الاختلاف، وضعُفَت القلوب بإيثار الدنيا على الآخرة، ومقارفة الشهوات، إلا من حفِظ الله.
ألا وإن الدين يهدِمُه ويُضعِفُه في القلوب: البدعُ المُضِلَّة، والشهوات المُحرَّمة، فأما البدع فهي الداء العُضَال، والسُّمُّ القتَّال، تُعمِي وتُصِمّ، وتُهلِكُ صاحبَها وتضر الدين والدنيا.
“والبدع: هي ما أُحدِث في الدين مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه”، قاله أهل العلم.
ويُعرفُ المبتدع بمخالفته لجماعة المسلمين وإمامهم وأهل العلم بالقرآن والسنة، وأما من انتسب للعلم وهو مُعرِضٌ عن كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، جاهلٌ بذلك فليس من ذوي العلم، وإنما هو داعيةٌ إلى ضلالٍ وفتنة، وأول البدع في الإسلام: بدعة الخوارج، ثم ظهرت بقية البدع بعد ذلك.
وحاربَ الصحابةُ t البدعَ التي ظهرت في زمانهم، وردُّوها وأقرؤوها، وبيَّنوا للناس سنة رسول الله ﷺ، والهديَ والحق بالكتاب والسنة، فكشف الله بهم الغُمَّة، وقمَع بهم البدع، وقام بالأمانة بعدهم التابعون وتابعوهم بإحسانٍ إلى آخر الدهر.
والله حافظٌ دينَه، وناصرٌ كلمتَه، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ الحجر 9، وقال تعالى: ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ التوبة 40.
وقد حذَّرنا الله – عز وجل – من البدع، وبيَّن لنا عواقبها الوخيمة في الدين والدنيا والآخرة، فقال – تبارك وتعالى -: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۞ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ آل عمران105 ، 106، وهذه الآية في أهل البدع التي فرَّقَت بين الأمة.
قال ابن كثير – رحمه الله – في “تفسيره”: “يعني: يوم القيامة حين تبيضُّ وجوه أهل السنة والجماعة، وتسودُّ وجوه أهل البدعة والفُرقة، قاله ابن عباس – رضي الله عنهما –“.
وقال عبد الله بن مسعود t: “عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة”.
وعن معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهما – قال: إن رسول الله ﷺ قال: «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملَّة، وإن هذه الأمة ستفترقُ على ثلاثٍ وسبعين ملَّة – يعني: الأهواء -، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوامٌ تتجَارَى بهم الأهواء كما يتَجَارى الكَلَبُ بصاحبه لا يبقى عِرْقٌ ولا مِفصَلٌ إلا دخَلَه»؛ رواه أحمد وأبو داود والحاكم في “المستدرك”.
والكَلَب: داءٌ يعرِضُ للإنسان من عَضَّة الكلب تتغيَّر به طِباع الإنسان وعقله، وتزداد حالته سوءً كل يوم حتى يهلِك.
وعن أبي بَرزة t عن النبي ﷺ قال: «إن مما أخشى عليكم شهوات الغَيّ في بطونكم وفُرُوجكم، ومُضِلاَّت الهوى»؛ رواه أحمد بإسنادٍ صحيح.
وعن العرباض بن سارية t قال: وعَظَنا رسول الله ﷺ موعظةً وجِلَت منها القلوب، وذَرَفَت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظةُ مودِّعٍ، فأوصِنا. قال: «أُوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبدٌ؛ فإنه من يعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدَثات الأمور، فإن كل بدعةٍ ضلالة»؛ رواه الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيح.
وعن ابن مسعود t أنه قال: “إنكم قد أصبحتم اليوم على الفطرة، وإنكم ستُحدِثون ويُحدَثُ لكم، فإذا رأيتم المُحدَثة فعليكم بالهدي الأول”؛ رواه محمد بن نصر المروزي بإسنادٍ صحيح.
وعن أنس t قال: “إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدقُّ من الشعر كنا نراها من العظائم في عهد رسول الله ﷺ“؛ رواه البخاري.
فالبدعُ تهدِم الدين، وتُفسِد ذات البَيْن، وتُوجِبُ غضبَ الله – عز وجل – وأليم عقابه في الآخرة، وتعمُّ بها العقوبات في الدنيا، وتتنافر بسببها القلوب، وتتضرَّر بها مصالحُ الناس، وتُورثُ الذل والهوان، ويتسلَّقُ بها أعداء الإسلام على المسلمين، كما قال النبي ﷺ: «وجُعِلَت الذِّلَّة والصَّغار على من خالَفَ أمري».
وأما الشهوات المحرمة فتضرُّ دين المسلم؛ من حيث إنها تُفسِد قلبه وتُقسِّيه، وتُورِث الغبرة الضارة، وإذا تمادى فيها الإنسان واسترسَل رانَت على القلب، فطُبِع عليه، وأعمَت البصيرة، فأحبَّ الإنسان ما أبغَضَ الله، وأبغَضَ ما أحبَّ الله، وجرَّت عليه المعاصي والخُسران والحرمان والعقوبات المتنوعة، وما يُلاقيه في الآخرة منها أدهى وأمرّ، وأصابَت المجتمع كله إذا ظهرت بأنواع العقوبات وأنواع الأضرار كلها، والمسلم يتحكَّم في نفسه، ويقودُها بزِمام التقوى إلى كل عملٍ صالحٍ رشيد، وكل نافعٍ مفيد، حتى لا يرتعَ في المعاصي، فإذا كان ذلك الإصرار والدوام على المعاصي فإن ذلك تستعصِي معه النفس، ويصعُب قِيادُها، فتقودُه إلى كل شرٍّ وبلاء، فيقع في شرِّ جزاء، قال الله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ مريم59.
رُوِي عن ابن مسعود t في قوله: ﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ قال: “وادٍ في جهنم، قبيح الطعم”. وعن أبي مالك الأشعري t أنه سمع النبي ﷺ قال: «لَيكونَنَّ من أمتي أقوامٌ يستحِلُّون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف»؛ رواه البخاري. ومعنى قوله: «يستحِلُّون الحِرَ»؛ أي: يستحِلُّون الفَرْج.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه.
الخطبة الثانية
الحمد لله علاَّم الغيوب، بارئ الهمِّ وكاشِفِ الغمِّ والكروب، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له غفَّار الذنوب، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالهدى واليقين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها المسلم: تفكَّر وتدبَّر، واحذر دخول هذين البابَيْن: باب الفتن والمُبتَدَعات، وباب الشهوات والمُحرَّمات، فهما اللذان أضرَّا بالإسلام والمسلمين، ولا يعصِم ويُنجِي من البدع والمُحرَّمات إلا العلم النافع، والعمل الصالح، وخوف الله تعالى، فالجهل سببُ كل شر، قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾ الأنعام 119، وقال – عز وجل -: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ الأنعام 116، وقال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ الأنعام 111، وقال – عز وجل -: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ الزمر 9.
والمسلم مأمورٌ بمعرفة دين الإسلام بأدلته من الكتاب والسنة، قال – تبارك وتعالى -: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ محمد 19، وفي البخاري ذكره مُعلَّقًا: “إنما العلم بالتعلُّم”. وعن معاوية t قال: قال رسول الله ﷺ «من يُرِد الله به خيرًا يُفقِّهه في الدين»؛ رواه البخاري ومسلم.
فالعصمة والنجاة من البدع المُحدَثة المُضِلَّة: الاعتصام بالكتاب والسنة، قال الله – تبارك وتعالى -: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ آل عمران: 103، وقال النبي ﷺ: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي».
ويتفَاضَل الناس بهذا التمسُّك والاعتصام، ويعظُمُ نفعُ المسلم ووزنه عند ربه بهذا العمل الصالح ولزوم منهج النبي ﷺ وأصحابه.
وأما من انتسَب للإسلام من غير تحقيقٍ لأعماله وعقيدته الصحيحة التي كان عليها السلفُ الصالحُ فهم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْل، كما قال النبي ﷺ: «يُوشِكُ أن تَداعَى عليكم الأمم كما يتَدَاعى الأكَلةُ إلى قصعتها». قالوا: أمِن قلَّةٍ نحن يا رسول الله؟ قال: «بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاء السَّيْل».
والعصمة من البدع المُحدَثة أيضًا: فهم القرآن والسنة على فهم السلف الصالح t من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فهم الذين رضِيَ الله عنهم في تفسيرهم للقرآن الكريم والحديث الشريف، ورضِيَ الله عنهم في عقيدتهم، وأعمالهم وتطبيقهم للإسلام مرضِيٌّ عنه من رب العالمين، ومن خالفهم توعَّده الله بقوله: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ النساء 115.
والعصمة من البدع المُحدَثة أيضًا: لزوم جماعة المسلمين وإمامهم بعدم الخروج عن ذلك، لقوله ﷺ: «فالزموا جماعة المسلمين وإمامهم»؛ رواه مسلم من حديث حذيفة – رضي الله عنه -.
والعصمة من البدع أيضًا: سؤال العلماء بالكتاب والسنة في أمور الدين والأخذ عنهم، قال الله – عز وجل -: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ النحل 43.
والعصمة من البدع أيضًا: سلامة الصدر من الغِش والبغي والغِلّ والحسد للمسلمين، لقوله ﷺ: «الدين النصيحة. ثلاثًا»؛ رواه مسلم من حديث تميم الداري – رضي الله عنه -.
أيها المسلمون: حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وليعتَنِ المسلم وليهتَم بتحقيق النية الخالصة لله تعالى في أعماله الظاهرة والباطنة، ولتكن أعماله كلها الظاهرة والباطنة على هدي رسول الله ﷺ، مُطابقةً للسنة النبوية المحمدية.
قال أهل العلم: “إن قول النبي ﷺ: «من عمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ» هذا الحديث ميزانٌ للأعمال الظاهرة، وأصلٌ عظيمٌ من أصول الإسلام، وقوله ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات» ميزانٌ للأعمال الباطنة”. ولتكن عنايتُك – أيها المسلم – بالنية الصالحة قبل العمل أعظم من العمل، واجتهادُك في القيام بالعمل وفق السنة أعظم من الاستكثار من الأعمال. وقد كان النبي ﷺ يقول في خُطبه: «إن خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد ﷺ، وشر الأمور مُحدثاتها، وكل بدعةٍ ضلالة»؛ رواه مسلم.
وقد كان يُكرِّره في مقامه لوعظه الأمة، فهو بهذا يُؤسِّس ويُؤكِّد الأمر باتباع الهدي المحمدي، والتحذير من المخالفات المُبتَدَعة، قال الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ الحشر 7، وقال – تبارك وتعالى -: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ النساء 69.
اللهمّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا معهم بمنِّك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين
أضف تعليقاً