الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي تفضل على عباده بمواسم الخيرات وتكرم وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة وهو لهم أبر وأكرم، أحمده سبحانه وأشكره على ما أولاه وأجزل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل الحج آية التوحيد في ختام العام وملتقى المسلمين في أعظم الاجتماع، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من حج واعتمر وعاد إلى مقره غانما سالما مأجورا، أفضل الأنبياء مكانة وشرفا، وأزكاهم طاعة وبرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى الآل والصحب أجمعين.
أما بعد: فيا أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل سرا وعلنا، حلا وترحالا، فتقوى الله حصن عزيز تمنع أهلها، وتحرِّز من لجأ إليها، وبها تُقْطَع حُمَةُ الخطايا، فهي النجاة غداً، والمنجاة أبداً: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ طه:132، والمتقون هم أولياء الله حقا وصدقا، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، واعلموا أنكم لم تخلقوا عبثا ولن تتركوا سدى، وإن لكم معادا يحكم الله بينكم فيه، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم من جنة عرضها السموات والأرض، واعلموا أن الأمان غدا لمن خاف الله اليوم، وباع قليلا بكثير، وفائتا بباق، ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ أيها المؤمنون : في أيام قلائل قد خلت ودعتم إخوانكم على وجل وهم يقصدون بيت الله الحرام لعبادة من أعظم العبادات، ولقربة من أعظم القربات، تجرَّدوا لله من المخيط عند الميقات، وهلَّت منهم دموعُ التّوبة في صعيدِ عرفات على الوجَنات، خجلاً من الهفَوات والعثَرات، وضجَّت بالافتِقار إلى الله كلّ الأصوات بجميع اللُّغات، وازدلفت الأرواح إلى مزدلفةَ للبيات، وزحفت الجموع بعد ذلك إلى رمي الجمرات، والطواف بالكعبة المشرَّفة، والسعي بين الصفا والمروة، في رحلةٍ من أروع الرحلات، وسياحةٍ من أجمل السياحات، عادوا بعدَ ذلك فرحين بما آتاهم الله من فضلِه، سالمين مما كانوا يحذرونه ﴿قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ يونس:58، ولله الحمد والفضل كان حج هذا العام آمنا مطمئنا .
وهنيئًا لمن وفقه الله للحج بقول رسول الهدى ﷺ فيما يرويه عن ربِّه جلّ وعلا: (إذا تقرَّب العبد إليَّ شبرًا تقرّبت إليه ذراعًا، وإذا تقرّب مني ذراعًا تقرّبت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيتُه هرولة) أخرجه البخاري وقوله (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).
حجّاجَ بيت الله الحرام، اشكُروا الله على ما أولاكم، واحمَدوه على ما حبَاكم وأعطاكم، ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ إبراهيم 7، اعرفوا إكرام الله لكم وحافظوا عليه تدخلون الجنة مكرمين .
حجاج بيت الله الحرام: إن التوفيق للحج والعود بعده بسلامة نعمة عظيمة ومنة جسيمة فكم من مسلم يحلم بالحج، وكم وافتهم المنية قبيل وأثناء وبعيد الحج، وإن هذه النعمة لا تتم إلا بتحقيق مقصد أعظم من مقاصد الحج، وهو التسليم الكامل لله تعالى ولرسوله عليه أفصل الصلاة وأزكى التسليم فيما بقي من العمر، والتسليم لله ورسوله عنوان الصديقية، وقاعدة الولاية الربانية، والاختبار الحقيقي لإيمان العبد وإسلامه، قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ النساء 65، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ الأحزاب 36. ولأجل التسليم شرعت أعمال الحج من إحرام وطواف وسعي ووقوف بعرفة ومبيت بمزدلفة ورمي للجمرات، وتلبية الحاج شعار التسليم (( لبيك اللهم لبيك ….. ))
أيها المؤمنون: وحقيقة التسليم لله ورسوله أن يسعى العبد في تخليص قلبه من كل إرادة تزاحم الإخلاص لله أو شبهة تعارض الخبر الإلهي، أو شهوة تخالف أمر الله ونهيه، فلا شرك بالله، ولا بدعة في عبادة الله، ولا مداومة على معصية الله، إذ لا نجاة بحج لا تسليم بعده، ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ • إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ الشعراء 88-89، فأيُّ حجٍّ لمن عادَ بعد حجّه يفعل شيئًا من الشِّرك ؟! يأتي المشعوِذين والسّحرة، ويصدِّق أصحابَ الأبراج والتنجيم وأهل الطِّيَرة، ويُعلِّق التمائم والحروز؟! و أيُّ حجٍّ لمن عاد بعد حجِّه مضيِّعًا للصّلاة، مانعًا للزّكاة، آكلاً للرِّبا والرّشا، متعاطيًا للفاحشة، قاطعًا للأرحام، والغًا في الموبقات والآثام؟! …..
إن التسليم لله ورسوله مكانة عظيمة، ومنزلة مرموقة، من تبوءها نال الفضل الرباني، والكرامة الإلهية، فبه فضل أولو العزم على سائر الرسل عليهم السلام، وبه كان إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن واتخذت المشاعر أماكن عبادة إلى يوم الدين، ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ • إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ البقرة 130-131، وبه كان محمد ﷺ أفضل الرسل قاطبة، وكان أصحابه خير الأمم بعد الأنبياء ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا • وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ الأحزاب 21-22
وبالتسليم لله يحسن دين المرء ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ النساء 125، فمن سلم قلبه وعقله وجوارحه لفاطره رضي الله عنه وأرضاه، وعاش في حياته بنور من الله على هدي رسول الله ﷺ، ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ لقمان 22
فاتقوا الله أيها المؤمنون: وأعدوا لمصيركم عدته، وتدبروا في عودكم إلى دياركم بعد الحج بعودكم إلى ما منها خلقكم ربكم ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ طه 55
اللهمَّ تقبَّل من الحجّاج حجَّهم، اللهمّ تقبّل من الحجّاج حجَّهم وسعيَهم، اللهمّ اجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، اللهمّ تقبّل مساعيَهم وزكِّها، وارفع درجاتهم وأعلِها، اللهم بلّغهم من الآمال منتهاها، ومِنَ الخيرات أقصاها، اللهمّ اجعل عودَهم إلى بلادهم حميدًا، واغفر لجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، قلت ما قلت الله تعالى أسأل القبول والتوفيق.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المؤمنون: ها أنتم تودعون عاما هجريا تمضي أيامه عام 1444 هـ، وتستقبلون عاما هجريا جديدا عام 1445 هـ، فليت شعري ماذا أودعتم في العام الذي يمضي؟ وبم تستقبلون العام الجديد؟ وإن التأريخ بهذا العام من وضع ثاني الخلفاء الراشدين المهديين والصحابة معه، فقد ورد أن أبا موسى الأشعري t كتب إلى عمر أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم أرخ بالمبعث، وبعضهم أرخ بالهجرة، فقال عمر t: الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها، وذلك سنة سبع عشرة فلما اتفقوا قال بعضهم ابدءوا برمضان فقال عمر: بل بالمحرم، فإنه منصرف الناس من حجهم فاتفقوا عليه.
إخوتي في الله: إن ذهاب عام ومجيء عام آخر لأمر عظيم يستدعي لزوم غرز النبي ﷺ بشكر المولى على ما أولانا من نعمة الاستبقاء إلى العام الجديد، وذلك فرصة للمؤمن للاستكثار من العام الصالح والتوبة إلى الله من المعاصي، فقد كان من قول بعض السلف: (إني لأنظر إلى من هو أقل مني في العمر فأراه أقل مني معصية وانظر إلى من هو أكثر مني عمراً فأراه أكثر مني طاعة) ، فقد كان النبي ﷺ مثالا حسنا لأمته في شكر الله وهو القائل ( أفلا أكون عبدا شكورا ) ،فالله – عز وجل – استبقاك في عامك الجديد وأطال في عمرك فخير ما تشكره به على هذه النعمة هو أن تعبده حق عبادته، فأر الله من نفسك خيرا واعبد ربك حتى يأتيك اليقين، عن عبد الله بن بسر المازني قال: جاء أعرابيان إلى رسول الله ﷺ فقال أحدهما : يا رسول الله ! أي الناس خير؟ قال: طوبى لمن طال عمره، وحسن عمله. وقال الآخر: أي العمل خير؟ قال : أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله ) . رواه الترمذي (2329) وابن ماجة (3793) وصححه الألباني .
-
ويستدعي منا لزوم غرز النبي ﷺ بإدراك حقيقة الدنيا وما فيها، فالدنيا إما نعمة زائلة، أو بلية نازلة، أو منية قاضية، ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ غافر 39
أيها المؤمنون: اعلموا أن من فضل الله عليكم أن جعل رأس السنة شهرا حراما، وسماه لكم رسول الله ﷺ بشهر الله المحرم، قال تعالى:﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ التوبة 36
ولقد ترك لكم نبيكم في هذا الشهر هديا بالغا، يكفل لمن أخذ به السعادة في الدارين، ومن ذلك:
-
الإكثار من الصيام وفعل الخير فيه: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ) رمسلم .
-
تحري صيام اليوم العاشر والأفضل صيام يوم قبله أو بعده، وفي ذلك نصوص كثيرة منها:
أضف تعليقاً