مشروع خطب الجمعة في إفريقيا | ||||
رقم الخطبة | عنوان الخطبة | معد الخطبة | تاريخ المقترح لإلقاء الخطبة | المراجعة والنشر |
175 | هجرة النبي ﷺ- | الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين – رحمه الله | 19/01/1446هـ الموافق26/07/2024م | الأمانة العامة |
الموضوع:“ هجرة النبي-ﷺ-“
الحمد لله الذي أرسل رسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، والشكر له على ما أولانا من واسع كرمه وفضله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هدى من هدى بفضله، وأضل من أضل بحكمته وعدله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى من جميع خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وصحبته، وسلم تسليما.
أما بعد:
ففي هذا الشهر شهر ربيع الأول من العام الثالث عشر من البعثة، وصل النبي ﷺ إلى المدينة مهاجرا من مكة البلد الأول للوحي، وأحب البلاد إلى رسول الله ورسوله، خرج من مكة مهاجرا بإذن ربه، بعد أن قام بمكة ثلاث عشرة سنة، يبلغ رسالة ربه، ويدعو إليه على بصيرة، فلم يجد من أكثر قريش وأكابرهم سوى الرفض لدعوته، والإعراض عنها، والإيذاء الشديد للرسول -ﷺ-، ومن آمن به، حتى آل الأمر بهم إلى تنفيذ خطة المكر والخداع لقتل النبي -ﷺ-، حيث اجتمع كبراؤهم في دار الندوة، وتشاوروا ماذا يفعلون برسول الله -ﷺ-، حين رأوا أصحابه يهاجرون إلى المدينة، وأنه لا بد أن يلحق بهم، ويجد النصرة والعون من الأنصار الذين بايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم، وحينئذ تكون له الدولة على قريش، فقال عدو الله أبو جهل: الرأي أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جلدا، ثم نعطي كل واحد سيفا صارما، ثم يعمدوا إلى محمد فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه، ونستريح منه، فيتفرق دمه، في القبائل فلا يستطيع بنو عبد مناف، يعني عشيرة النبي -ﷺ- أن يحاربوا قومهم جميعا، فيرضون بالدية، فنعطيهم إياها.
الله أكبر، هكذا يخطط أعداء الله للقضاء على رسول الله، وبهذا القدر من المكر والخديعة، ولكنهم يمكرون ويمكر الله، كما قال الله -عز وجل-:
﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾[الأنفال: 30].
فأعلم الله نبيه -ﷺ- بما أراد المشركون، وأذن له بالهجرة، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- قد تجهز من قبل للهجرة إلى المدينة، فقال له النبي -ﷺ-: “على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي“[البخاري (2176) أبو داود (4083) أحمد(6/198)].
فتأخر أبو بكر -رضي الله عنه- ليصحب النبي -ﷺ-.
قالت عائشة -رضي الله عنها-: فبينما نحن في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة في منتصف النهار، إذا برسول الله -ﷺ- على الباب متقنعا، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، فدخل النبي -ﷺ-، وقال لأبي بكر: “أخرج من عندك” فقال: إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي، فقال النبي -ﷺ-: “قد أذن لي في الخروج” فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: نعم، فقال: يا رسول الله فخذ إحدى راحلتي هاتين، فقال النبي -ﷺ-: “بالثمن” [البخاري (3694) أبو داود (4083) أحمد (6/198)].
ثم خرجا رسول الله -ﷺ- وأبو بكر، فأقاما في غار جبل ثور ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وكان غلاما شابا ذكيا واعيا، فينطلق في آخر الليل إلى مكة، فيصبح مع قريش، فلا يسمع بخبر حول النبي -ﷺ- وصاحبه إلا وعاه، حتى يأتي به إليهما حين يختلط الظلام، فجعلت قريش تطلب النبي -ﷺ- من كل وجه، وتسعى بكل وسيلة، ليدركوا النبي -ﷺ- حتى جعلوا لمن يأتي بهما أو بأحدهما ديته مئة من الإبل، ولكن الله كان معهما يحفظهما بعنايته، ويرعاهما برعايته، حتى إن قريشا ليقفون على باب الغار فلا يرونهما.
قال أبو بكر -رضي الله عنه-: قلت للنبي -ﷺ- ونحن في الغار لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا؟ فقال: “لا تحزن إن الله معنا، ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما”[البخاري (3453) مسلم (2381) الترمذي (3096) أحمد (1/4)].
حتى إذا سكن الطلب عنهما قليلا، خرجا من الغار بعد ثلاث ليال، متجهين إلى المدينة على طريق الساحل، فلحقهما سراقة بن مالك المدلجي على فرس له، فالتفت أبو بكر، فقال: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا؟ فقال النبي -ﷺ-: “لا تحزن إن الله معنا“[البخاري (3419) مسلم (2009) ، أحمد (1/3)].
فدنا سراقة منهما حتى إذا سمع قراءة رسول الله -ﷺ- غاصت يدا فرسه في الأرض، حتى مس بطنها الأرض، وكانت أرضا صلبة، فنزل سراقة وزجرها فنهضت، فلما أخرجت يديها صار لأثرهما عثان ساطع في السماء مثل الدخان، قال: فوقع في نفسي أن سيظهر أمر رسول الله -ﷺ-، فناديتهم بالأمان، فوقف رسول الله -ﷺ- ومن معه، فركبت فرسي حتى جئتهم وأخبرتهم بما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، وقال للنبي -ﷺ-: إنك تمر على إبلي وغنمي بمكان كذا فخذ منها حاجتك، فقال: لا حاجة لي في ذلك، وقال: أخف عنا فرجع سراقة، وجعل لا يلقى أحدا من الطلب إلا رده، وقال: كفيتم هذه الجهة
فسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، رجل ينطلق على فرسه طالبا للنبي -ﷺ- وصاحبه، ليظفر بهما، فيفخر بتسليمهما إلى أعدائهما من الكفار، فلم ينقلب حتى عاد ناصرا معينا مدافعا، يعرض عليهما الزاد والمتاع، وما يريدان من إبله وغنمه، ويرد عن جهتهما كل من أقبل نحوها، وهكذا، كل من كان الله معه فلن يضره أحد، وتكون العاقبة له.
ولما سمع أهل المدينة من المهاجرين والأنصار بخروج رسول الله -ﷺ- إليهم، كانوا يخرجون صباح كل يوم إلى الحرة، ينتظرون قدوم رسول الله -ﷺ- وصحبه، حتى يطردهم حر الشمس، فلما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله -ﷺ- وتعالى النهار، واشتد الحر، رجعوا إلى بيوتهم، وإذا رجل من اليهود على أطم من آطام المدينة ينظر لحاجة به، فأبصر رسول الله -ﷺ- وأصحابه مقبلين يزول بهم السراب، فلم يملك أن نادى بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا جدكم، يعني هذا حظكم وعزكم الذي تنتظرون، فهب المسلمون للقاء رسول الله -ﷺ-، معهم السلاح، تعظيما وإجلالا لرسول الله -ﷺ-، وإيذانا باستعدادهم للجهاد، والدفاع دونه رضي الله عنهم، فتلقوه ﷺ بظاهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين، ونزل في بني عمرو بن عوف في قباء، وأقام فيهم بضع ليال، وأسس المسجد، ثم ارتحل إلى المدينة والناس معه آخرون يتلقونه في الطرقات، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: خرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق، وعلى البيوت والغلمان والخدم، يقولون: الله أكبر، جاء رسول الله: الله أكبر، جاء محمد.
وقال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: “إني لأسعى بين الغلمان وأنا يومئذ غلام، والناس يقولون جاء محمد، جاء محمد”.
هكذا يردد الناس هذه الكلمات فرحا بمقدم رسول الله -ﷺ- الذي هو أحب الناس إليهم.
فيا له من مقدم ملأ القلوب فرحا وسرورا، وملأ الآفاق بهجة ونورا.
فقدم رسول الله -ﷺ- المدينة، وكل قبيلة من الأنصار تنازع الأخرى زمام ناقته النزول: “عندنا يا رسول الله، في العدد والعدة والمنعة”.
ورسول الله -ﷺ- يقول: “دعوها فإنها مأمورة، وإنما أنزل حيث أنزلني الله -عز وجل-“.
فلما انتهت به إلى مكان مسجده بركت، فلم ينزل عنها رسول الله -ﷺ- حتى وثبت ورسول الله -ﷺ- قد أطلق لها الزمام، فسارت غير بعيد، ثم التفتت خلفها فعادت إلى مكانها الأول فبركت، فقال النبي -ﷺ-: “هذا إن شاء الله المنزل”.
وكان هذا المكان لغلامين يتيمين، فدعاهما رسول الله -ﷺ-، فساومهما ليشتريه منهما، فيتخذه مسجدا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، وقال: “أي بيوتنا أقرب؟” قال أبو أيوب: أنا يا رسول الله هذه داري وهذا بابي، قال: “فانطلق فهيئ لنا مقيلا” ففعل، ثم جاء فقال: “قوما على بركة الله”.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
ثم جاء عبد الله بن سلام، وكان حبرا من أحبار اليهود، فقال: أشهد أنك رسول الله، وأنك جئت بحق، وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني أسلمت، فإنهم إن علموا به قالوا في ما ليس في، فأرسل النبي -ﷺ- إلى اليهود فأتوا إليه، فقال النبي -ﷺ-: “يا معشر يهود ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا، وأني جئتكم بحق” قالوا: ما نعلم ذلك، قال: “فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟” فقالوا: سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: “أرأيتم إن أسلم؟” قالوا: حاش لله ما كان ليسلم، فأعاد فأعادوا.
وكان عبد الله بن سلام قد اختبأ لينظر ما يقولون، فقال النبي -ﷺ-: “يا ابن سلام اخرج عليهم” فخرج، فقال: يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق، فقالوا له: كذبت، فأخرجهم النبي -ﷺ-، فقال عبد الله للنبي -ﷺ-: “ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بهت، أهل غدر، وكذب وفجور”[البخاري (3694) أحمد (4/176)].
هذه -أيها المسلمون- هجرة رسول الله -ﷺ- خرج من بلدة ليقيم دعوة الله، ويصلح بها عباد الله.
فاتقوا الله -عباد الله-، واهجروا المعاصي، لتقوموا بإحدى الهجرتين، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، ومن اتقى وأحسن كان الله معه:
﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128].
هذا وصلوا وسلموا على خير البرية محمد بن عبد الله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم
اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، واجمعهم على الحق والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خُلَّتهم، وأطعِم جائعَهم. نستغفِرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيُّوم ونتوبُ إليه.
أضف تعليقاً