بسم الله الرحمن الرحيم

مقــدمــة

   الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على المبعوث رحمة للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (سورة الأنبياء: 107) وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،

أمّا بعد؛

فإنّ الإنسان مكوّن من جسم وروح وعقل، وكلٌّ يحتاج إلى رعاية وحماية لكي يُؤدي الإنسان دوره المنوط به في هذه المعمورة بشكل صحيح، ومعلوم أنّ حماية الإنسان من الأمراض الفتّاكة من أهمّ ما يجب أن يُعتنى به؛ ليقوم الإنسان بوظيفته في هذه الحياة من عمارة للأرض وإصلاحها وحماية بيئتها، ومن ثَمّ الاستفادة منها، وفوق ذلك كلّه أداء ما خُلق من أجله وهو تحقيق العبوديّة لله جلّ وعلا وفق منهج كتابه وسنّة نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، ولن يكون شيء من ذلك على أكمل وجه إلّا بعقل سليم وجسم صحيح، ومن هنا جاء أهمية التّطعيم، فكان عنوان هذه الورقة: موقف الفقه الإسلامي من التّطعيم ، وكانت محاورها على النحو التالي:

  • المحور الأول: مفهوم التطعيم وأهميّته
  • المحور الثاني: مشروعية الوقاية من الأمراض
  • المحور الثالث: عناية الإسلام بصحّة الإنسان
  • المحور الرابع: الأخذ بالأسباب لا يُنافي التوكل على الله تعالى
  • الخاتمة والتوصيّات
  • المصادر والمراجع

المحور الأوّل: مفهوم التطعيم وأهميّته

  • التطعيم في اللغة: التطعيم، مصدر مأخوذ من الفعل طعّم، يُقال: طعّم فلانٌ كذا بعنصر كذا؛ لتقويته أو لتحسينه أو اشتقاق نوع آخر منه، ويُقال-أيضاً-: طعّم الجسد بالمَصْل، إذا حصّنه به من المرض.[1]
  • التطعيم في الاصطلاح: التطعيم، هو عبارة عن سائل يحتوي على البكتيريا الممرِضة في صورة ميّتة كاللّقاح المستخدم ضد حمّى التيفود، أو به سلالات حيّة مضعَّفة من البكتيريا لا تقوى على إحداث المرض مثل الكوليرا أو السلّ، أو به سموم خارجيّة للبكتيريا كلقاح الدفتيريا الذي يُحقن به الشخص السليم؛ لوقايته من الأمراض، فهذا اللقاح يُكسب الجسم مناعة متفاوتة المدّة، حسب نوع الميكروب[2]، فمبدأ التطعيم يعتمد على إدخال الميكروبات المُضعّفة أو الميّتة إلى الجسم، فتتعرّف عليها أجهزة المقاومة الموجودة في الجسم، فتسرع إلى صنع المواد المضادّة والقذائف المضادّة، فلا يهجم ذلك الميكروب مرّة أخرى إلّا وقد تسلّح الجسم بأسلحة الدّفاع كاملة، ومع ذلك قد تنجح المقاومة وقد تفشل إلّا أنّ نسبة النجاح هي الغالبة.[3]
  • أهميّة التطعيم: من المعلوم أنّ التحصين ضدّ الأمراض والأوبئة بالوسائل المختلفة من حقن وتطعيمات ضرورة لازمة بالنسبة للإنسان في جميع مراحل عمره إلّا أنها أكثر أهميّة بالنسبة للطفل؛ لأنّه حينما يُولد يُغادر مكاناً شديد التعقيم والنّظافة إلى عالم مليء بالجراثيم؛ فكان بحاجة ماسّة إلى التطعيم ضد الأمراض والأوبئة؛ ليشبّ قويّاً سليماً معافى من كلّ المتاعب التي تعوق نموّه وتُنغّص عليه حياته[4].

المحور الثاني: مشروعية الوقاية من الأمراض

 

الأمراض نوعان: مرض القلوب، ومرض الأبدان، وكلاهما مذكوران في القرآن الكريم[5]، قال تعالى في شأن المنافقين:{ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } (سورة البقرة: 10 – 16) وقال سبحانه وتعالى في شأن مَن في صدره مرض الشّبهة والشك:{ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (سورة النور: 48 – 50) وقال جلّ شأنه في ِشأن مرض الشّهوة: { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (سورة الأحزاب: 32).

أمّا فيما يتعلّق بأمراض الأبدان فيقول الحقّ تبارك وتعالى:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } (سورة النور: 61) وأمّا فيما يتعلّق بصحة الأبدان فيقول الحقّ سبحان وتعالى في آية الصوم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة: 183 – 184) فأباح الله تعالى الفطر للمريض والمسافر طلباً لحفظ صحتهما وقوّتهما، وقال تعالى في آية الحج:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } (سورة البقرة: 196) فأباح الله سبحانه وتعالى للمريض ومَن به أذى من رأسه من قمل أو نحوه أن يحلق رأسه استفراغاً لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في الرأس، فإذا حلق رأسه ، تفتّحت المسامّ، فخرجت تلك الأبخرة منها، فهذا الاستفراغ يُقاس عليه كلّ استفراغ يُؤذي انحباسُهُ الإنسانَ، ومعلوم أنّ الأشياء التي يُؤذي انحباسها عشرة، وهي: الدم إذا هاج، والمني إذا تبيّغ، والبول، والغائط، والريح، والقيء، والعطاس، والنوم، والجوع، والعطش، وكل واحد من هذه العشرة يُوجب حبسُه داءً من الأدواء، وقد نبّه القرآن باستفراغ أدناها، وهو البخارُ المُحتقِن في الرأس على استفراغ ما هو أصعب منه، وذلك من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى[6]. وقال تعالى في آية الوضوء:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (سورة النساء: 43) ففي هذه الآية أباح الله تعالى للمريض أن يَعْدِل عن الماء إلى التيمم حتى لا يُصاب بأذى، وهذا تنبيه منه جلّ وعلا على حماية الإنسان عن كلّ ما يُؤذيه[7]، وقال تعالى في شأن المحيض:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (سورة البقرة: 222).قال صاحب تفسير المنار ما نصّه: ((قدّم العلّة على الحكم، ورتّبه عليها؛ ليُؤخذ بالقبول من المتساهلين الذين يرون الحجر عليهم تحَكّماً، ويُعلم أنّه حكم للمصلحة لا للتعبد كما عليه اليهود، والمراد من النّهي عن القرب، النّهي عن لازمه الذي يُقصد منه، وهو الوِقاع، والمعنى أنّه يجب على الرجال ترك غشيان نسائهم زمن الحيض؛ لأنّ غشيانهنّ سبب للأذى والضرر، وإذا سلم الرجل من هذا الأذى، فلا تكاد تسلم منه المرأة؛ لأنّ الغشيان يُزعج أعضاء المرأة التناسليّة فيها إلى ما ليست مستعدّة له، ولا قادرة عليه؛ لاشتغالها بوظيفة طبيعيّة أخرى، هي إفراز الدّم المعروف)).[8] وجاء في كتاب الوقاية الصّحيّة على ضوء الكتاب والسّنة ما نصّه: ((للاتصال الجنسي أثناء الحيض والنّفاس أضرار كثيرة؛ لهذا فقد حرّم الدّين الإسلامي هذا الاتصال حفاظاً على صحّة كلٍّ من الرجل والمرأة والحمل، وقد حذّر كبار الأطباء من هذا الاتصال، بعد أن ثبت لهم كثرة أضراره، يقول د. سبيرو فاخوري: إنّ المعاشرة الجنسيّة أثناء الحيض، وخلال الأسابيع الأولى بعد الولادة تؤدي أحياناً إلى إصابة المرأة بأمراض خطرة؛ بسبب انتشار الجراثيم بسهولة في المسالك التناسليّة، مما يُسبب لها عُقماً أكيداً؛ وذلك لأنّ شرايين الرّحم بعد الولادة وفي فترة الطّمث، تكون منتفخة ومفتوحة، يتدفّق منها الدّم إلى الخارج مما يُسهّل دخول الجراثيم بسهولة عن طريقها إلى الرحم وملحقاته، خاصّةً إذا كانت الاتصالات الجنسيّة ملوّثة أو مشبوهة؛ لذلك ننصح الزّوجين بالانقطاع تماماً عن الممارسات الجنسيّة خلال فترة الحيض، وبعد الولادة مباشرة، والخلود إلى الراحة الجسديّة))[9] ومن الأطباء القدامى الذين حذّروا من الاتصالات الجنسيّة أثناء الحيض( ابن بختيشوع )الطبيب النّصراني المشهور حيث إنّه قال: ((وطء المرأة الحائض يُولد الجذام))[10]

أمّا نصوص السنة في هذا الباب فكالآتي:

عن أسامة بن زيد –رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم بالطّاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها)) متفق عليه[11]، وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فِرْ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد)) رواه البخاري في صحيحه[12]، وعن عمرو الشَّريد عن أبيه قال ((كان في وفد ثقيف رجلٌ مجذوم، فأرسل إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم إنّا قد بايعناك فارجع)) رواه مسلم في صحيحه،[13] وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((لا يُورِد المُمرِض على المُصِحّ)) رواه مسلم.[14]

المحور الثالث: عناية الإسلام بصحّة الإنسان

 

   لقد اعتنى الإسلام بجسم الإنسان وحفظ صحّته من حيث الوقاية التي جاء الكتاب والسنة بقسم كبير منها، تتجلّى في الحرص على النّظافة، والتّطهر من النجاسات في البدن والثوب والمكان، وليس هذا فحسب بل إنّ الإسلام حرّم الأطعمة الضارّة بالإنسان، ووضع القواعد العامة لكميّة الغذاء المناسب له حفاظاً لصحّته،[15] قال تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (سورة الأَعراف: 31) فأرشد سبحانه وتعالى إلى ما يُقيم البدن من الطّعام والشراب عِوَض ما تحلّل منه، وأن يكون ذلك بقدر ما ينتفع به البدن في الكميّة والكيفيّة، فمتى جاوز ذلك كان إسرافاً، وكلاهما مانع من الصحة جالب للمرض، أعني بذلك عدم الأكل والشرب أو الإسراف فيهما، فكان حفظ الصّحة كلّه في هاتين الكلمتين من الآية الكريمة، ولمّا كانت الصّحة من أجلّ نعم الله تعالى على الإنسان، كان حقيقاً لمن رزق حظّاً من التوفيق مراعاتها وحفظها وحمايتها عمّا يُضادها،[16] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصّحة والفراغ)) رواه البخاري في صحيحه.[17]

ولا ريب في أنّ دين الإسلام هو دين شامل لصالح العباد في معاشهم ومعادهم، فلم تهتم تعاليمه بالروح على حساب الجسد فتُحرمه من الطيّبات التي أوجدها الله تعالى من أجله، ولم ينصبّ اهتمامه على الجسد فيُهمل الروح ومطالبها، بل انتهج منهجاً وسطاً، فأعطى الروح حقّها وافياً، وأولى الجسد مقداراً كبيراً من الرعاية والعناية؛ لأنّه دين مُنزل من حكيم خبير،[18] قال تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (سورة الملك: 14) وقال سبحانه وتعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (سورة المائدة: 3) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (يا عبد الله، ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ؟ فقلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله، فشددتُ فشُدد عليّ، قلت: يا رسول الله، إني أجد قوة، قال: فصم صيام نبي الله داود – عليه السلام – ولا تزد عليه، قلت: وما كان صيام نبي الله داود – عليه السلام – قال: نصف الدهر) متفق عليه.[19]

المحور الرابع: الأخذ بالأسباب لا يُنافي التوكل على الله تعالى

 

الأخذ بالأسباب سنّة من السنن الربّانية، وضرورة من ضرورات الحياة، وقد اهتمّ القرآن الكريم اهتماماً كبيراً في إرشاد الأمّة إلى الأخذ بالأسباب، فهذه مريم-عليها السلام-أمرها الله تعالى أن تباشر الأسباب، وهي في أشدّ حالات ضعفها،[20] قال تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} (سورة مريم: 25) وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل المتوكّلين على الله تعالى أعدّ العدّة للهجرة، فلم يترك أمراً من الأمور إلّا أعدّله عدّته، وحسب له حسابه، ورسم له خطّته على نحو يستوعب كلّ الطاقات والوسائل، فقد أعدّ النبي-صلى الله عليه وسلم-الرواحل والدليل، واختار الرّفيق، والمكان الذي سيتوارى فيه هو وصاحبه حتى يهدأ الطلب ويفتر الحماس، وأحاط ذلك كلّه بما يُمكن للبشر من أخذ الحذر والكتمان وأسباب الاحتياط، وكذلك الأمر بالنّسبة لجميع غزواته وأموره،[21] وعليه فإنّ التوكّل على الله تعالى لا يمنع من الأخذ بالأسباب بل إنّ الأخذ بالأسباب من تمام التوكّل على الله تعالى، فالقرآن الكريم أرشدنا إلى الأخذ بالأسباب، وأرشدنا ألّا نعتمد عليها وحدها، وإنّما نتوكّل على الله تعالى مع الأخذ بها[22]، قال تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (سورة التوبة: 105) وقال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (سورة الأَنْفال: 60) وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (سورة الجمعة: 9 – 10).وعن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أنّكم كنتم تَوَكّلون على الله حقّ التوكّل، لرُزقتم كما يُرزق الطيرُ، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث، حسن صحيح.[23]

فإن قيل: كيف نجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يورد ممرض على مصح))[24] مع قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا عدوى ولا طِيَرة)) متفق عليه،[25] قلنا: يُجاب عن ذلك بما أورده ابن حجر العسقلاني في المسلك الخامس حول هذا الحديث، حيث إنّه قال حكاية عن أهل العلم: (( المراد بنفي العدوى أنّ شيئاً لا يُعدي بطبعه، نفياً لما كانت الجاهلية تعتقده أنّ الأمراض تُعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادهم ذلك، وأكل مع المجذوم ليبيّن لهم أنّ الله هو الذي يُمرض ويُشفي، ونهاهم عن الدنوّ منه؛ ليُبيّن لهم أنّ هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنّها تُفضي إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارة إلى أنها لا تستقل، بل الله هو الذي إن شاء سلبها قواها، فلا تؤثّر، وإن شاء أبقاها فأثّرت)[26]) قلت: ويُمكن أن يُستأنس هنا بقصة إبراهيم عليه السلام في هذا الباب؛ لمعرفة الفرق بين حكمته وطلاقة قدرته، فبحكمته وضع الأسباب، وبطلاقة قدرته يفعل ما يشاء، والحمد لله ربّ العالمين، قال تعالى:{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} (سورة الأنبياء: 69 – 70) وقال سبحانه وتعالى حكاية عن مريم عليها السلام: { قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (سورة آل عمران: 47).

الخاتمة والتوصيات

 

   من خلال ما سبق يعلم أنّ دين الإسلام هو دين الصّحة والنّظافة، وأنّه اعتنى بحماية الإنسان من المخاطر منذ نشأته إلى مماته، بل إنّ حفظ النّفس في التشريعات السماويّة يُعدّ من الضروريّات الخمسة التي دعت إليها جميع الدّيانات السماوية؛ لذا، كان التطعيم بشكل عام، وتطعيم الأطفال بصورة خاصة؛ لحمايتهم من الأمراض المعدية وغيرها واجباً دينياً، وضرورةً إنسانية؛ لحفظ الحياة البشريّة من المخاطر، ولو تأملنا نصوص الكتاب والسنة لوجدنا الكثير منها تحضّ على حماية الإنسان من كلّ ما يَلحق به من أذى إمّا نصّاً وإمّا إشارة أو تنبيهاً، وهذا إن دلّ فإنّما يدلّ على أهمية الأمر، وعليه فإنني أوصي بالآتي:

  • اعتماد مادة الثقافة الصحيّة في المدارس والخلاوى القرآنية.
  • الاعتناء بثقافة التوعية الصحية في المدارس، والمعاهد، والجامعات، ودور العبادة، ومنابر الجمعة.
  • عقد لقاءات تفاكرية مع قادة الرأي والفكر بشكل دوري حول أفضل الوسائل؛ لنشر ثقافة التطعيم بين الأسر.
  • عقد لقاءات تشاوريّة مع القيادات التقليديّة حول أهميّة التطعيم للفرد والمجتمع.
  • حض رجال السياسة إلى الاعتناء بالثقافة الصحيّة في الخطاب السياسي.
  • الاعتناء بالجانب الإعلامي في نشر الثقافة الصحية الأسبوعية، وخاصة أهمية التطعيم ضد شلل الأطفال، إضافةً إلى تسخير المسرح، وبيت الخَيَالة (دور السينما) لهذا الشأن.
  • نشر المطويّات حول مخاطر عدم التطعيم بالنسبة للأطفال، الذين هم جيل المستقبل.

هذا، وأسأل الله تعالى العون والسّداد؛ إنّه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

المصــادر والمـراجــع

 

  • القرآن الكريم
  • المعجم الوسيط: د. إبراهيم أنيس، وآخرون، ط: الثانية، المكتبة الإسلامية، عام 1998م.
  • فتح الباري: أحمد بن حجر العسقلاني، ط: الثالثة، دار المطبعة السلفيّة، القاهرة، مصر، عام1307هـ.
  • علوم الحياة: د. حسن أحمد المغربي، وآخرون، ط: الأولى، ليبيا، عام 1990م.
  • الهدي النبوي في الطب: عبد الله بن جار الله آل جار الله، ط: الأولى، المديرية العامة للمطبوعات، عام 1412هـ.
  • فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم: د. علي محمد محمد الصلابي، ط: الأولى، مكتبة الإيمان، المنصورة، القاهرة، مصر.
  • الوقاية الصحية على ضوء الكتاب والسنة: لؤلؤة بنت صالح بن حسين آل علي، ط: الأولى، دار ابن القيم، السعودية، عام 1989م.
  • تفسير المنار: محمد رشيد رضا، ط: الثانية، دار الفكر.
  • العدوى بين الطّب وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: د. محمد علي البار، ط: الرابعة، الدار السعودية للنشر، عام 1981م.
  • سنن الترمذي: محمد بن عيسى الترمذي، ط: الأولى، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، عام 1987م.
  • اللؤلؤ والمرجان: محمد فؤاد عبد الباقي. ط: الأولى – دار الفيحاء – دمشق – عام 1994م.
  • التربية الصحية لطفلك: د. محمد قرني، المركز العربي الحديث، القاهرة، مصر الجديدة.

10-صحيح مسلم بشرح النووي: يحيى بن شرف النووي، ط: الأولى، المطبعة المصرية بالأزهر، مصر، عام 1929م.

[1] د. إبراهيم أنيس، وآخرون، المعجم الوسيط: باب الطاء، حرف الطاء مع العين

[2] د. حسن المغربي، وآخران، علوم الحياة: ص61

[3] د. محمد علي البار، العدوى بين الطب وحديث المصطفي صلى الله عليه وسلم: ص55

[4] د. محمد قرني، التربية الصحية لطفلك: ص51

[5] عبد الله آل جار الله، الهدي النبوي في الطب: ص25-26

[6] المرجع نفسه: ص27-28

[7] المرجع السابق: ص28

[8] محمد رشيد رضا، تفسير المنار:2/359

[9] لؤلؤة آل علي، الوقاية الصحيّة على ضوء الكتاب والسنة: ص435

[10] المصدر نفسه: ص437-438

[11] ابن حجر العسقلاني، فتح الباري:10/189؛ النووي، صحيح مسلم بشرح النووي:14/205

[12] ابن حجر العسقلاني، فتح الباري:10/167

[13] النووي، صحيح مسلم بشرح النووي:14/228

[14] المصدر نفسه:14/216

[15] لؤلؤة آل علي، الوقاية الصحية على ضوء الكتاب والسنة: ص14-15

[16] عبد الله آل جار الله، الهدي النبوي في الطب: ص81-83

[17] ابن حجر العسقلاني، فتح الباري:11/

[18] لؤلؤة آل علي، الوقاية الصحية على ضوء الكتاب والسنة: ص15

[19] محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان:1/199-200

[20] د. علي محمد الصلابي، فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم: ص230، 236

[21] المصدر نفسه: ص231-232

[22] المصدر نفسه: ص234-235

[23] الترمذي، سنن الترمذي:4/495

[24] سبق تخريجه: ص6

[25] ابن حجر العسقلاني، فتح الباري:10/167؛ النووي، صحيح مسلم بشرح النووي:14/220

[26] ابن حجر العسقلاني، فتح الباري:10/170

 

للتحميل انقر هنا التطعيم أديس أبابا

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *