noimage

لا يخفى أنَّ فزع الناس إلى الدِّين، وإلى العلماء والقادة الدِّينيِّين، في سبيل بحثهم عن الأمن والسَّلام، إنَّما هو تأكيدٌ لدَوْر الدِّين في حياة المجتمعات، وهو دَوْرٌ كلَّما ازداد تنكُّر النَّاس له؛ ازدادت أحقِّيته، وكبرت حاجتهم إليه؛ فالدِّين هو الأقدرُ على إصلاح ما أفسده النَّاسُ والسِّياسة.

ازداد في العقود الماضية الاهتمام باستكشاف أثر الدِّين في تحقيق السَّلام، بمعتقداته، وقِيَمه، وتشريعاته، وقادته.. وفي هذا المجال دراساتٌ كثيرة، منها: دراسات آبلبايْ (Appleby, 2000)، ويعدُّ رائِدَ الباحثين في هذا المجال، ومنها دراسات محمد أبو نمر (1)، وهو أشهر باحثٍ مسلم في استكشاف أثر القادة الدِّينيِّين المسلمين في تحقيق السَّلام وحلِّ النِّزاعات.

ولعلَّ أبرز منْ نبَّه الباحثين على ضرورة محوريَّة الدِّين في دراسات السَّلام: الباحث مارتي، ومن أقواله في ذلك: «إنَّ انشغالنا بالسُّؤال عن سبب مركزيَّة الدِّين في الحروب؛ قد صرفنا عن استكشاف الطَّاقة الكامنة في الأفراد العاملين باسم الدِّين من أجل العلاج» (2).

ومن المصطلحات الرَّائجة في هذا المقام: «بناء السَّلام الدِّيني» (Religious Peace-building)، وهو حقلٌ علميٌّ تخصُّصيٌّ جديدٌ في كثيرٍ من الجامعات الأمريكيَّة، وأُنشئت له الكثير من المؤسَّسات والأكاديميَّات المتخصِّصة.

ومن المصطلحات ذات الصِّلة بالقادة الدِّينيِّين، في حقل بحوث السَّلام، مصطلح: «بُناة السَّلام الدِّينيُّون» (Religious Peace-builders)، وهو أكثر الألقاب تداوُلاً واشتهاراً، وهناك: «النُّشطاء الدِّينيُّون» (Religious Actors/Activists)، و «صُنَّاع السَّلام الدّينيِّيُّون» (Peace Makers Religious)، وغيرها..

وهُم- بتعريف الباحث هاينس-: «الأفراد أو ممثِّلو المنظمات ذات البنية الدِّينيَّة، الذين يحاولون مساعدة الجماعات المتنازعة في حلِّ نزاعاتها وبناء السَّلام» (3)، وقريبٌ منه تعريف الباحثَيْن كُوارد وسميث (4).

ولا يخفى أنَّ كثرة تلك الألقاب لَدليلٌ قويٌّ على أهمِّية القادة الدِّينيِّين في مجال السَّلام، وضرورة وجودهم في معادلات المشروعات السِّلميَّة، أكد القرآن ذلك في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ…﴾  [النساء : 83].

وتستأنس هذه الورقة بما ذهبت إليه الباحثة سينْثيا (Cynthia S.) من تحديدٍ لمجالات تحقيق السلام، بوصفه إطاراً نظريّاً؛ لاستكشاف أثر العلماء والقادة الدِّينيِّين في تحقيق السَّلام والوئام في المجتمع الإفريقيِّ.

ويتلخَّص ما ذهبت إليه سينْثيا من تحديدٍ لمجالات عمل القادة الدِّينيِّين في تحقيق السَّلام في ستَّة محاور(5) :

1 – التَّأييد والدِّفاع: أن يُعنى النَّاشط الدِّيني، في المقام الأوَّل، بتقوية الطَّرف الأضعف في النِّزاع، وإعادة بناء العلاقات البينيَّة المحطَّمة، وتغيير الأنظمة الاجتماعيَّة الجائرة.

2 – الوساطة: توسُّط القادة الدِّينيِّين بين المتنازعين، وتوظيفهم للقيم الرُّوحيَّة، والنُّصوص الدِّينيَّة؛ من أجل حمل المتنازعين على السَّلام والمصالحة.

3 – المراقبة: مراقبة القادة الدِّينيِّين لسلوك النَّاس العدوانيَّ، وردعهم عنه بالنُّصح والمواعظ.. وغيرها.

4 – التَّثقيف والتَّعليم: قيامهم بتربية الأفراد والمجموعات، في الفصول المدرسيَّة ودُور العبادة، وفي المؤتمرات والنَّدوات، على احترام قِيم الأديان الأخرى، ونبذ العنف.

5 – العدالة العابرة للحدود: العمل من أجل محاسبة المنتهكين لحقوق الإنسان، ومرتكبي الجرائم في فترات الحرب.

6 – الحوار الدَّاخلي أو بين الأديان: هي المساعي التي يبذلها القادة الدِّينيُّون من أجل تحاوُر الجماعات الدِّينيَّة أو المتخاصمين؛ لتحقيق تفاهُمٍ أفضل بينها.

– يضاف إلى ذلك: قتال الفئة الباغية حتى تقبل حوار المصالحة: فإنَّ القرآن قد أمدَّ المجتمع المسلم بآليَّةٍ سلميَّة خالدة في «حفظ السَّلام»، قال تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات : 9]، وفي هذه الآية بيانٌ لمراحل عملية السلام.

وفي الفقرات الآتية استعراضٌ لبعض تلك المحاور من خلال دَوْر العلماء السِّلمي بإفريقيا؛ قديماً وحديثاً.

العلماء المسلمون ودَوْرهم التاريخي في بناء السَّلام وحلِّ النِّزاعات:

إنَّ رعاية السَّلام– بجميع صُوَره ومراحله- من الواجبات الدِّينيَّة المنوطة في المقام الأوَّل بالعلماء، ويعدُّ تحقيقه نعمةً عظيمة لله عز وجل على المجتمع المسلم، قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران : 103]، والمجتمع الذي يسودُ فيه الشِّقاقُ لَمُجتمعٌ– حقّاً- على شفا حفرةٍ من النَّار، أمرُهُ إلى زوال.

فالعالم المسلم، وكلُّ فردٍ في المجتمع المسلم، إنَّما يقوم بدَوْره في تحقيق السَّلام؛ بِوَصف ذلك مهمَّةً دينيَّة، وعملاً صالحاً يسمو بفضله على كثيرٍ من العبادات والأعمال، قال تعالى: ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ [النساء : 114]، وفي الحديث عن أبي الدَّرداء- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخْبركُم بأفضَلَ منْ درجة الصِّيامِ والصَّلاة والصَّدقة؟ قالوا: بلى. قال: إصلاحُ ذاتِ البين، وَفَسادُ ذاتِ البَيْن هي الحالقَة» (6).

في إطار كون رعاية السَّلام واجباً دينيّاً؛ يمكن النَّظر في أثر علماء إفريقيا في ثقافة السَّلام، وتحقيق الوئام الاجتماعيِّ، ولنا شواهد تاريخيَّة تتْرى، يمكن إيراد بعضها؛ في ضوء بعض المجالات السَّابق ذكرها عند الباحثة سينْثيا.

التأييد والدفاع:

في المصادر التَّاريخيَّة الإفريقيَّة– على قلَّتها- شواهد عدَّة في نَذْر العلماء أنفسهم لبناء ثقافة السَّلام في المجتمع الإفريقيِّ، وفي حال نشوب الخلافات؛ فإنَّهم كانوا يأخذون بزمام المبادرة لإعادة التَّوازن والتَّناغم في المجتمع.

 ولعلَّ أوَّل مظاهر عناية العلماء برعاية السَّلام: بيوت المشايخ والقضاة والأئمَّة التي كانت أماكن يفزعُ إليها الخصوم، ويهرعُ إليها اللاَّهفون والخائفون في أوقات الصِّراع والأزمات، ومن أوائل الشَّواهد التَّاريخيَّة في هذا المجال: ما نجده في أحاديث ابن بطوطة 779هـ عن رحلته إلى مالي؛ إذ ذكر أنَّ «قاسا» (زوجة السُّلطان سليمان الكبرى) اتُّهمت بمحاولة قتل السُّلطان، وأوغر الوزراءُ قلبه عليها، وقالوا: «إنَّ هذا ذنبٌ كبير، وهي تستحقُّ القتل عليه، فخافت قاسا من ذلك، واستجارت بدار الخطيب» (7)، ويزيد ابن بطوطة قوله: «وعادتهم أن يَسْتَجيرُوا بالمسجد، وإن لم يتمكَّن فبدار الخطيب» ، فههنا دلالةٌ روحيَّة عميقة في استجارة زوجة السُّلطان بدار الخطيب، هرباً من بطش زوجها، فـ «المسجد» و «دار الخطيب» يحظيان بحصانةٍ تامَّةٍ لا تنالها سطوةُ السُّلطان نفسِه؛ ناهيك عمَّن دونه، وكانت هذه الحصانةُ تتوسَّع لتشمل شخص الخطيب.

 من أمثلة تلك الدُّور المحصَّنة: دار الفقيه الحاج بَرَكُيْ مَنْس كورَ في عهد أسكيا الحاج محمد الكبير ، ت 1538م ، وهي حصانة انتزعها مَنْس كورَ من أسكيا حين حجَّا معاً ووقفَا بالرَّوضة الشَّريفة، أخذ عليه عهوداً قال له: «فلا تقتلْ مَن دخَلَ في داري، ولا مَن وصلني؛ فقال: فعَلتُ. قال: لا بدَّ أن تعطيني العهدَ على ذلك في هذا المكان الشَّريف» (8)، فالخطيب كان هو القائم بمهمَّة الإصلاح والمصالحة بين النَّاس، ولنا شواهد كثيرة في ذلك، خصوصاً في مواقف الخطباء السُّودانيِّين الصَّارمة من الحكَّام (فتاش: 61)، ويُعبَّر في القاموس التَّاريخيِّ عن دَوْر العلماء السِّلمي في التَّأييد والدِّفاع والتَّوسُّط في النِّزاعات، بقولهم: «دخل فلانٌ في حرمة الفقيه…» إذا هرب إليه واستجار به.

بالمثل؛ فإنَّ البلدات ذات الثِّقل الرُّوحي الإسلاميِّ المتميِّز كانت تحظى بحصانةٍ وقدسيَّة لا تُنتهك؛ إذ كانت للعلماء بها استقلاليَّة شبه تامَّة عن السُّلطة السِّياسيَّة المركزيَّة، ففي وصف مدينة «تمبكتو» مثلاً يقول ابن المختار: «وهي يومئذٍ ليس فيها حُكْمٌ إلا حُكمُ مُتولِّي الشَّرع. ولا سلطانَ فيها، والقاضي هو السُّلطان، وبيده الحلُّ والرَّبط وحْدَه» (9) ، ومثل «تمبكتو» مدينة «تَوْتا الله/ تَوْتَلة»، (أي: بلد الله)، وكانت بلدةً بمنطقة تِنْدِرْمَ بصونغايْ، ومنها بلدة «كُنْجور» بإمارة غَجاغا (Gadiaga) السُّوننكيَّة، وهي كما يقول ابن المختار: «بلدٌ بأرض كَيَّاكَ، بَلَدُ قَاضِي تِلْكَ الإقْلِيم وعُلَمَائها. لا يَدْخُلُهَا جُنْدِيٌّ، ولا يَسْكُنُهَا أحدٌ مِنَ الظَّلَمَة» (10) ، وأطلق عليها الأب لاباتْ (PèreLabat, 1728)، لقب: «جمهوريَّة الفقهاء»، وكانت تمثِّل عاصمة الزِّعامات الإسلاميَّة بالمنطقة (11) .

وبلدةٌ أخرى؛ هي: «جَعْبَ» بمملكة مالي، وصفها ابن المختار بقوله: «ومِثْلُها في أيَّام سَلْطَنَةِ سُلْطَان مَلِّ: جَعْبَ بَلَدُ الفُقَهَاء (12) … ومَنْ دَخَلَهُ كان آمِناً مِنْ ضَيْمِ السُّلْطَان وجَوْرِهِ، ومَنْ قَتَل وَلَدَ السُّلْطَانِ لا يَسْأَلُهُ السُّلْطَانُ بِدَمِهِ، يُقالُ له: بَلَدُ الله» (13) ، ويصف مارْتي البلدة نفسها بـ «الميتروبوليَّة الإسلاميَّة بماسينا (…) البلدة العلميَّة المقدَّسة» (14) .

ومنها: مدينة «دار سلامي» في القرن التَّاسع عشَر الميلاديِّ، ببوركينافاسو الحاليَّة، وبلدة ديغيلْ: مقرُّ الشَّيخ عثمان دان فوديو.

فهذه البلدات، وأمثالها، كانت مثل «مناطق سلميَّة عازلة» (buffer zones)، تتمتَّع بمكانةٍ روحيَّةٍ عميقة، وتحظى باستقلاليَّةٍ شبه كاملةٍ عن السُّلطة السِّياسيَّة المركزيَّة، يُحظر فيها أيُّ تصرُّف غير سلميٍّ، وكان المشايخ يقومون فيها بمهمَّاتٍ سلميَّة مختلفة.

الوساطة:

تمدُّنا المعطيات التَّاريخيَّة ببلاد السُّودان الغربيِّ بنماذج عدَّة من وساطات العلماء بين المتخاصمين وحلِّ النِّزاعات، ولعلَّ أوَّل صُوَر وساطات العلماء والأئمَّة والخطباء ما كانوا يقومون به من قضاءٍ بين النَّاس، وفضٍّ للخصومات، حتى في مرحلة مبكِّرةٍ قبل أن يظهر نظام القضاء الشَّرعي بتمبكتو في صورته الرَّسميَّة المقنَّنة.

وعلى سبيل المثال: يقول السَّعدي في ترجمة الشَّيخ محمود بن عمر بتمبكتو: «وهو أوَّل قاضٍ فيها الذي يفصلُ بين النَّاس بالشَّرع، وقبل ذلك لا يتفاصَلُ النَّاس إلاَّ عند الخطيب بالصُّلح، وهو شأن السُّودانيِّين» (15) ، فأكَّد أنَّ الناس كانوا يتقاضون عند الخطيب صُلحاً.

ومن المواقف في وساطات العلماء المبكِّرة، في محاولةٍ لنزع فتيل الحرب، وساطتهم بين أسكيا الحاج محمد وبين الملك نَعْسِر ملك موشِ؛ قام بها الشَّيخ ألفا (مور) صالح جَوَرَ بين الاثنين، وكاد الملك يفتكُ به (16).

وقبل أنّ ينشب القتال بين أسكيا وبين أبي بكر (شي بارُ، ابن صُن علي)؛ فإنَّ العلماء بمملكة صونغايْ قد قاموا بوساطاتٍ عدَّة من أجل نزع فتيل الحرب، بادر بها العالم الصَّالح محمد تُل الشَّريف، وكاد الشَّيخ يُقتل في مساعيه تلك، وثنَّاه العالم ألفا صالح جَوَر؛ وهمَّ أحد وزراء شي بارو بقتله، وتوسَّط بعده ألفا محمد كعت على الرّغم من شدَّة التَّهديد بالقتل (17)، وقبل ذلك؛ فإنَّ علماء كثيرين قد قضَوا نَحْبَهم على يد الظَّالم صُن علي (ت 1492م)، في وساطاتهم ووقوفهم إلى جانب الضُّعفاء، ومراقبتهم لأفعاله الجائرة (18).

أيضاً؛ من الشَّواهد في توسُّط علماء «تمبكتو» من أجل تحقيق السَّلام: ما قاموا به من مساعٍ سلميَّة في ظروف احتلال الجيش المغربيِّ لصونْغايْ (1591م)، وقد نجحت إحدى تلك المساعي التي قام بها العلماء في تفادي مجزرةٍ محقَّقةٍ كان القائد المغربيُّ قد أمر بها، وتُعرف باسم «السَّبيل»، وهو قتلٌ عشوائيٌّ يقوم به الجيش لمدةٍ معلومةٍ لكلِّ من يُعثَر عليه، وبلغ الرُّعب بأهل تمبكتو مبلغَه «في ليلةٍ ما أعظمَها، وأعْظِمْ برَوْعةٍ كانت فيها، هربَ أهلُ تُنبكت، ودخلوا البحر، وحسِبَ النَّاسُ أنَّ الفناء يكون في غَدِها» (19)، في هذا الظَّرف المتأزِّم، جمع الفقيه القاضي عمر، والقاضي محمود بغَيُغ العلماء في مسجد سَنْكُرَيْ؛ وتشاوَرُوا فيما يفعلون، وكان الفرَج لأهل «تمبكتو» إثر هذا الاجتماع.

هذا، ولا يخفى أنَّ العلماء– في مساعيهم التَّوافقيَّة بين الفرقاء وإصلاحهم بين النَّاس- كانوا يتحمَّلون مسؤوليَّاتٍ كبيرة، ويتعَّهدون بضمانات ماديَّة باهظة في قضاء الدُّيون، ودفع التَّعويضات؛ من أجل إرضاء الأطراف المتنازعة.

تجدر الإشارة إلى وساطةٍ سلميَّة فذَّة قام الشَّيخ الحاج عمر بن سعيد (الفوتي)، بين السُّلطان محمد بيللو (ت 1837)، والشَّيخ محمد الكانمي، ونجحت في إخماد حربٍ طاحنةٍ بين الزَّعيمَين المسلمَيْن، وقد ترك الشَّيخ– بهذا الصَّدد- مذكِّرة خالدة في أدبيَّات السَّلام سمَّاها: «تذكرة الغافلين» (20)، وهي منظومةٌ شعريَّة وجَّهها إلى الزَّعيمَين، وتظهر أهمِّيتها في كونها «تتجدَّد مع الزَّمن؛ إذ يشهد المجتمع المسلم– مع الأسف- خلافاتٍ ونزاعاتٍ داخليَّة كثيرة دون أن تكون هناك بوادر ونوايا حسنة لحلِّ تلك النِّزاعات، وإذا ما استصحبنا التُّهم الجاهزة ضدَّ المسلمين؛ بوصفهم مصدر النِّزاعات، في وقتنا الحاضر، فإنَّ أمثال هذه الأعمال لَشَهادات تاريخيَّةٌ قويَّة في نسف تلك التُّهم الملصقة بالمسلمين (…)، إنَّ هذا المخطوط يعطينا صورةً أخرى عن صاحبه، خلافاً لما رُسِم عنه، بل إنَّه يعطينا مفاتيح وحلولاً لخلافاتنا الحاضرة» (21).

كذلك، من العلماء المشهورين، من ذوي النُّفوذ الكبير في المصالحة بين المجموعات، الشَّيخ سيدي المختار الكُنتي (ت 1226هـ/1811م)، خصوصاً بين المجموعات الرَّعويَّة من الطَّوارق والأرْمَا (الرُّماة) في تمبكتو، وغيرهم.

ومن الكتب التَّاريخيَّة التي رصدت شيئاً من جهود الشَّيخ الكنتي، وغيره من العلماء، في المصالحات بين النَّاس في بلاد السُّودان، كتاب (الطَّرائف والتَّلائد) لابنه الشَّيخ سيدي محمد بن الشَّيخ الكُنتي.

نماذج للعلماء بُناة السلامٍ في إفريقيا المعاصرة:

للعلماء الأفارقة المعاصرين جهودٌ سلميَّة كثيرة في بناء السَّلام، ونشر ثقافة اللاَّعنف، والتَّدخُّل في النِّزاعات لمكافحتها أو حلِّها أو تحويلها، أو غير ذلك.

وههنا استعراضٌ لنماذج من جهودهم في بعض الدول الإفريقيَّة، مثل نيجيريا، وسيراليون، ورواندا، وسوف نخصّ إفريقيا الوسطى بشيءٍ من التَّفصيل.

دَوْر العلماء المسلمين في نيجيريا:

يقوم العلماء المسلمون في المجتمع النيجيري– بمختلف إثنيَّاته- بدَوْرٍ فعَّالٍ في الحفاظ على التَّناغُم الاجتماعي، ففي المجتمع الهوساوي– مثلاً- يوجد بكلِّ قريةٍ أو بلدةٍ زعيمٌ شعبيُّ يُعرف باسم: (dagaci)، ومعه مجلسٌ شوريٌّ من كبار السِّن، مهمَّتهم الحسم في المنازعات، ويُختار هذا الزَّعيم عادةً من العلماء، وفي عام (1987م) تمَّ إنشاء مجلس عامٍّ لشيوخ شمال نيجيريا؛ من أجل «التوسُّط في المنازعات الدِّينيَّة والخلافات التي تحدث في المناطق الشَّماليَّة» (22) .

كذلك؛ فإنَّ في الولايات الجنوبيَّة، (أُيو، أغونْ، لاغوسْ) بين يوربا، زعماء يُعرفون باسم: (obas)، وهُم ذوو نفوذٍ شعبيٍّ قويٍّ في التَّوسُّط بين الخصوم، ويُطلق على المسلمين من الفقهاء والعلماء منهم لقب: (aaremusulumi) (23)، وهو أعلى لقبٍ إسلاميٍّ عند اليوربا بنيجيريا، وعندهم أيضاً زعماء بلقب: (Baba Adinni)، ويعني حرفيّاً: أبو الدِّين، وهو لقبٌ مستحدَثٌ بمثابة الأب الرُّوحي للمجتمع، ويقوم جميع أولئك بمهامّ اجتماعيَّة كثيرة؛ للحفاظ على الوئام الاجتماعيِّ، وتنظيم العلاقات بين الأفراد والمجموعات.

ومن مشاهيرهم المعاصرين: الحاج عبد العزيز ألاوْ (Alhaji A. Arisekola Alao)، يصفه الباحث بادنْ بقوله: «لقد اشتُهر آرِي مُسْلمِي بالدَّعوة إلى تفاهُمٍ أفضل بين المسلمين والمسيحيِّين (…)، وكان سبباً أساساً في البحث عن أرضيَّة مشتركة في القضايا حول النِّزاعات في التِّسعينيَّات (…)، إنَّ هؤلاء الزُّعماء المسلمين كثيراً ما يؤكِّدون على ضرورة التَّسامح والسَّلام والصَّبر، وكثيراً ما يستشهدون بنصوصٍ من الكتاب المقدَّس ومن القرآن»(24) .

أمَّا على المستوًى المؤسَّسيٍّ، فمن نشطاء السَّلام المشهورين بنيجيريا: الإمام محمد أشافا (M. Nurayn Ashafa)، زعيم المجلس الأعلى للشؤون الإسلاميَّة (NSCIA)، وقد أسَّس، هو والقس الإنجيلي جيمس وويي (James Movel Wuye)، عام (1995م)، مركز الوساطة بين الأديان، بكادونا، ونشطَا في المجال السلمي في النِّزاعات التي نشبت بنيجيريا، وفي جهود بناء السَّلام، بل توسَّع نشاطهما إلى بلادٍ إفريقيَّة كثيرة، مثل: بوروندي، وكينيا، والسودان، وسيراليون، ومالي، وأكسبهما ذلك اعترافاً عالميّاً موسَّعاً في أوروبا وأمريكا.

دَوْر العلماء المسلمين في سيراليون:

بدأت الحرب الأهليَّة بسيراليون عام 1991م، ووُصِفت– هي والحرب بليبيريا- بأبْشَع الحروب الأهليَّة في تاريخ القارة، وقد تجلَّى الموقف السِّلمي الإسلاميُّ الأوَّل في تلك الحرب في الموقف الدِّفاعي والحماية التي وفَّرها المسلمون للمدنيِّين العزل دون تمييزٍ في الانتماء الإثنيِّ أو الدِّيني، وكُوِّن لذلك جيشٌ عُرف بجيش كَمَاجورْ (Kamajor) (25)، وكان ذلك في ظلِّ الإهمال الإقليميِّ والدُّولي للشَّعب الأعزل على امتداد خمس سنوات من الحرب.

بعد ذلك؛ تمّ تأسيس المجلس المشترك بين الأديان، في (أبريل 1997م)، ويتجلَّى في ذلك أيضاً أثر العلماء والمسلمين في بناء السَّلام بسيراليون، وهو– وإن لم ينفرد المسلمون بتأسيسه- صورةٌ مشرقةٌ للتَّاريخ السِّلمي للمسلمين بإفريقيا؛ أكسبت هذا المجلس اعترافاً دوليّاً، وإشادة بجهوده في حلِّ النِّزاع وتحقيق السَّلام.

تظهر ريادة المسلمين في هذا المجلس في عدد الجمعيَّات الإسلاميَّة التي شاركت في إنشائه، منها: المجلس الأعلى الإسلامي بسيراليون، والاتّحاد العام لجمعيَّات المرأة المسلمة بسيراليون (SLIMU)، ومجلس الأئمَّة، والكونجرس الإسلامي، وجمعية الدَّعوة الإسلاميَّة (MWASL). بينما كان الأعضاء المؤسِّسون من غير المسلمين من الكنيسة الكاثوليكيَّة، ومجلس الكنائس المستحدثة.

هذا، وقد استعانت هيئة الأمم المتَّحدة بهذا المجلس في جهود حفظ السَّلام، وعقد المعاهدات مع المتمرِّدين، وفي الجهود الإغاثيَّة، وجهود بناء السَّلام، والمصالحة الوطنيَّة بعد الحرب (26) .

 دَوْر العلماء المسلمين في رواندا:

لقد سطَّر المسلمون والعلماء برواندا صفحةً نيِّرةً من التَّاريخ في أثناء حرب الإبادة بين الهوتو والتُّوتسي (1994م)؛ حيث كفُّوا أيديهم عن القتال، وهبُّوا لحماية الفارّين وإيوائهم في بيوتهم، وقد قضى الكثير من المسلمين نحْبَهم في سبيل ذلك، ومن الحوادث الشَّهيرة– بهذا الصَّدد-: حادثة مسجد حيِّ نياميرامبو (Nyamirambo) الجامع، الذي تحصَّن به مئات من التُّوتسي؛ فراراً من ميليشيَّات الإنترهامويهْ، وقام بحراستهم المسلمون (27).

بالإضافة إلى ذلك؛ فإنَّ علماء المسلمين برواندا قد كان لهم أثرٌ بارزٌ في التَّوعية الجماعيَّة أثناء الحرب وبعدها، ومشاركة فاعلةٌ في جهود السَّلام والمصالحة الوطنيَّة، وقام زعيم اتِّحاد المسلمين برواندا الشَّيخ المفتي هابيمانا (S. Salih Habimana)، مع القسِّ الإنجيلي عمانويل. ك (Emmanuel Kolini)، بتأسيس بعثة رواندا للأديان، ومهمَّتها: «البحث عن السُّبُل والوسائل لإنهاء العداء الإثنيِّ، ودعم الحوار، وحريَّة التَّعبير» (28)، وحاز الشَّيخ هابيمانا عدَّة ميداليَّاتٍ ذهبيَّة من منظَّمات عالميَّة؛ لجهوده السِّلميَّة برواندا، وكان من النَّتائج العمليَّة لمواقف المسلمين السِّلميَّة أثناء هذه الحرب، سرعة تزايُد أعداد المسلمين بعد الحرب إلى الضِّعفَين أو أكثر (29).

دَوْر العلماء المسلمين في كوت ديفوار (ساحل العاج):

 للعلماء المسلمين جهودٌ سلميَّة واضحةٌ في الحرب الإيفواريَّة (1999م – 2011م)، خصوصاً في الفترة التي حاول فيها النِّظام الحاكم آنذاك تحويل الأزمة إلى دينيَّة إثنيَّة، وذلك بالاستهداف المباشر للرُّموز الإسلاميَّة بإحراق المساجد، وقتل الأئمَّة بالمساجد أو في بيوتهم (30) ، وإحراق المسلمين أحياءً، وأطلقوا على ذلك: «قانون 25فرنك»، إشارةً إلى سعر علبة كبريت الرَّخيصة الثَّمن، وقليلٍ من البنزين.

أمَّا عن الإسهام الإسلاميِّ في بناء السَّلام بكوت ديفوار؛ فقد تمثَّل في جهود جمعيَّاتٍ واتِّحاداتٍ إسلاميَّة كثيرة، تكفينا هنا الإشارة إلى المجلس الوطني الإسلامي (Conseil National Islamique, CNI)، في عام (1992م) (31)، والمجلس الأعلى للأئمَّة (Conseil Superieur des Imams, COSIM) الذي أُنشئ عام (1988م).

 ومن إسهامات المجلس الوطني في الجهود السِّلميَّة بكوت ديفوار: اشتراكه في ندوة الحوار والمصالحة الوطنيَّة (CDVR)، في (أكتوبر 2001م) (32) ، وقبل ذلك جهوده في توعية المسلمين وتثقيفهم بالسَّلام، وحملهم في الفترات الحادَّة على ضبط النَّفس، والبقاء في دُورهم.. «صائمين، داعين الله: السَّلامة للمواطنين، والسَّلام للوطن»(33) .

هذا، وقد حدَّد الباحث فورشاردْ إنجازات هذا المجلس في: «تحقيق الوحدة بين المسلمين من جميع المشارب، خاصَّة بين التَّقليديِّين وبين دعاة المعاصرة، والارتقاء بالإسلام من مستواه الطُّقوسيِّ إلى إدراجه في الحياة الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة، والمطالبة بالاعتراف بحقوق المجتمع المسلم، وإشراكه في مستقبل الدَّولة الإيفواريَّة، إلى جانب المجموعات الدِّينيَّة الأخرى… إنَّ رسالتها تسامحيَّة مؤلِّفة، إنَّها حركة فريدة من نوعها، تحوز إعجاب الدُّول المجاورة» (34) .

جمهوريَّة إفريقيا الوسطى:

تُعدُّ الحرب الأهليَّة بجمهوريَّة إفريقيا الوسطى أحدث حالات النِّزاع، ولم يشذَّ تصرُّف العلماء والمسلمين فيها– ولا يزال- عن تصرُّفهم ومواقفهم في الظُّروف المماثلة بسائر الدُّول الإفريقيَّة؛ من التزامٍ بالسَّلام، ومبادرةٍ إلى جهود المصالحة الوطنيَّة.

بدأت الحرب الأهليَّة بإفريقيا الوسطى بحركة التَّمرُّد التي أطاحت بنظام الرَّئيس بوزيزيهْ على يد جبهة (UFDR) التي تأسَّست في سبتمبر (2006م)، بمحافظة (Vakanga, Haute Koto)، وبعد معارك مع الحكومة؛ وقَّعت هذه الجبهة معاهدة سلام مع حكومة بوزيزيهْ بتاريخ (13 أبريل 2007م)، تقتضي إلقاء المتمرِّدين أسلحتهم، وإصدار عفوٍ شامل عنهم، وتوفير الحكومة وظائف لهم، والاعتراف بالجبهة بوصفها حزباً سياسيّاً.. إلخ، ولكن يبدو أنَّ الحكومة لم تَفِ بالتزاماتها.

لذلك؛ ظهرت حركة سيليكا (Seleka): بوصفها صبغةً جديدةً من الجبهة القديمة، وتجمُّعاً جديداً لمتمرِّدي الشَّمال، بزعامة (Michel Djotodia)، الذي اتَّهم الرَّئيس بوزيزيه بالمروق من المعاهدة الموقَّعة، وبعد اشتباكاتٍ؛ تقدَّم المتمرِّدون (ديسمبر 2012م)، حتى شارفوا العاصمة بانْغي، وطالبوا بمحادثات سلامٍ جديدة، وتمَّ ذلك بعاصمة غابون ليبريفيل (11 يناير 2013م)، وتعهَّد الرَّئيس فيها بإجراء انتخاباتٍ رئاسيَّة وتحديثاتٍ أمنيَّة، وتكوين حكومة وحدة وطنيَّة، وبالرّغم من ذلك تتابع القتال، وما لبث نظام بوزيزيهْ المهلهَل أن تهاوى في (22 مارس 2013م)، وعيَّن زعيم التَّمرُّد «ميشيل جوتوديا» نفسه رئيساً للبلاد، وحلَّ جبهة التَّمرُّد، ووعد بانتخاباتٍ حرَّة ونزيهة في غضون ثلاث سنوات.

هذا، ولكون جوتوديا مسلماً، وكون المسلمين أقليَّة بالبلاد حوالي (15%)، فإنَّ حركة تمرُّدٍ معاكسة ضدَّ النِّظام الجديد قد قامت على يد الفلول من الجيش الموالي للرَّئيس المخلوع، وميليشيات أطلقت على نفسها (Anti-Balaka)، وطغت على الأزمة صبغةٌ دينيَّةٌ، ألهبتها وسائل الإعلام التي زعمت أنَّ حركة التَّمرُّد تقوم بالاعتداء على المسيحيِّين، وبالَغَ بعضُهُم إلى القول بأنَّ عمليَّة إبادة- على غرار الإبادة العرقيَّة برواندا- قائمةٌ بإفريقيا الوسطى.

في هذا السِّياق؛ ندَّدت فرنسا والمجتمع الدّولي بالرئيس الجديد بشدَّة، واتَّهموه بالعجز عن التَّحكُّم في مقاتليه، وطالبوه بالتَّنحِّي، وسارعت فرنسا إلى اجتياح البلاد (في 5 ديسمبر)، بكتيبة قوامها (1600) جنديٍّ فرنسي، بالإضافة إلى (5000) جندي من منظمة الوحدة الإفريقيَّة، بدعوى حفظ السَّلام، وفي العاشر من يناير (2014م)؛ رضخ الرَّئيس جوتوديا للضُّغوط الفرنسيَّة والدّوليَّة؛ فاستقال، وغادر البلاد في لجوءٍ سياسيٍّ إلى جمهوريَّة بنين، وعُيِّنت محلَّه حاكمة مدينة بانغي سابقاً.

على الرّغم من التَّدخُّل الفرنسي؛ فإنَّ العنف قد ازداد، بل إنَّ الجنود الفرنسيِّين قد شاركوا في مقتل المسلمين المدنيِّين في أكثر من حادثة (35)، ونشطوا في نزع سلاح مقاتلي «سيليكا» وطردهم من العاصمة، وفي هذا الظَّرف ازداد عنف ميليشيات (Anti-Balaka) في قتل الناس بالسواطير وحرق أجسادهم (36)، واستهداف الأحياء الشَّعبيَّة المسلمة (حي مسكين، وحي كلم5)، وحرق المساجد، وإتلاف دكاكين المسلمين ونهب محتوياتها، على مرأى من القوَّات الفرنسيَّة والإفريقيَّة لحفظ السَّلام (37) !

بل كان الأطفال والنِّساء يُقتلون بأعدادٍ كبيرةٍ وهم تحت حماية المنظَّمات، ومن ذلك مقتل (22) من النِّساء والأطفال المسلمين ببلدة (Bouar)، بتاريخ (17 يناير 2014م)، في شاحنة لمنظَّمة (Save the Children) (38) ، ومن المجازر البشعة التي ارتكبها ميليشيات أنتي بلاكا: مقتل اللاَّجئين الذين كانوا قد اتَّخذوا دار الإمام إسماعيل نافي ملاذاً آمناً بمدينة (Bossangoa) شمالي البلاد (39) .

من جهود المسلمين السلميَّة في المصالحة بإفريقيا الوسطى:

هذا، وعلى الرّغم من المجازر البشعة ضدَّ المسلمين بجمهوريَّة إفريقيا الوسطى؛ فإنَّ تصرُّف أفرادهم، وجهود علمائهم وقادتهم كانت سلميَّةً بامتياز؛ حيث قام العلماء المسلمون منذ الأيَّام الأولى من الأزمة بالجهود الإغاثيَّة، بتوفير المساعدات الغذائيَّة والحاجيَّات الضَّروريَّة للفارِّين والمهجَّرين، وقام رئيس اتِّحاد مسلمي إفريقيا الوسطى الإمام عمر لاياما (Oumar Kobine Layama)، بتوزيع الأطعمة والمؤن على أكثر من (10.000) من المهجَّرين المسيحيِّين آنذاك، ونقلت الوكالات الإخباريَّة ذلك، وتصريحه لأولئك بقوله: «لقد جئنا اليوم إلى هنا؛ لأنَّنا إخوةٌ.. إنَّ بيتنا يحترق، وعلينا أن نطفئ النِّيران» (40)، ومن الجهود السِّلميَّة التي قام بها هذا الإمام وسائر العلماء بإفريقيا الوسطى: التَّوعية والتَّثقيف، ودعوة النَّاس إلى ضبط النَّفس.

كما قام الشَّيخ عمر لاياما، هو وكبير الأساقفة (Dieudonné Nzapalainga)، برحلاتٍ كثيرةٍ داخليَّةٍ في حملة تهدئة للمتقاتلين؛ ليؤكِّدا للشَّعب أنَّ هذه الحرب ليست دينيَّة، وأنَّ حركة التَّمرد سيليكا، ليست إسلاميَّة في تكوينها، بل فيها مسلمون ومسيحيُّون، وأنَّ حربها ضدَّ الحكومة إنَّما هي سياسيَّة (41)، وبالإضافة إلى الجهد المحليِّ؛ فإنَّ القائدَيْن قد قامَا برحلاتٍ متفرِّقة إلى أوروبا؛ لمناشدة المجتمع الدّولي من أجل دعم حفظ السَّلام بالبلاد (42).

أمَّا بعد الحرب؛ فإنَّ علماء المسلمين قد نشطوا في جهود المصالحة الوطنيَّة، وفي عمليَّات إعادة البناء، وقد عُقد– بهذا الصَّدد- مؤخَّراً (بتاريخ 25-26 فبراير 2016م): مؤتمر (الحوار بين مسلمي البلاد) بفيينا، باستضافة مركز الملك عبدالله للحوار بين أتباع الأديان والثَّقافات، وشاركت فيه منظَّمات دوليَّة وإسلاميَّة كثيرة، منها: الأمانة العامَّة لمنظَّمة التَّعاون الإسلامي، ومنتدى تعزيز السَّلام في المجتمعات المسلمة، وغيرها من المنظَّمات الدّوليَّة، وحضرَهُ كذلك زعماء دينيُّون من مسيحيِّي جمهوريَّة إفريقيا الوسطى، وقادة من الشَّباب وغيرهم.

بالإجمال؛ فإنَّ جهود العلماء المسلمين وعامَّتهم السِّلميَّة في هذه الحرب التي استهدفت المسلمين العزل، وأزهقت أرواحهم بأشبع الصُّور الوحشيَّة، ودمَّرت ممتلكاتهم، وخرَّبت رموزهم الدِّينيَّة من مساجد بشكلٍ كامل.. إنَّ جهودهم السِّلميَّة قد شهد بها المنصفون حول العالَم، وحاز الشَّيخ الإمام عمر لاياما اعترافاً عالميّاً بجهوده السِّلميَّة، وقُلِّد، هو وزميله كبير أساقفة إفريقيا الوسطى، وسام الأمم المتَّحدة للسَّلام (19 أغسطس، 2015م)، كما قُلِّدا وسام (Zix-la-Chapelle) بألمانيا (أول سبتمبر، 2015م) (43)، هذا، ولعلَّ الدَّعوة الإسلاميَّة إذا أحسنت استثمار هذا الإنجاز السِّلميَّ بجمهوريَّة إفريقيا الوسطى؛ تشهد تطوُّراً مطَّرداً على غرار النَّموذج الرُّواندي.

خاتمة:

ختاماً لكلِّ ما سبق في هذه الورقة؛ فقد اتَّضح أنَّ العلماء المسلمين بإفريقيا– قديماً وحديثاً- قد قاموا بمهمَّة تحقيق السِّلم في مجتمعاتهم، وبالحفاظ على تناغم المجموعات والتَّبايُنات الإثنيَّة والدِّينيَّة، وشملت جهود المسلمين وعلمائهم السِّلميَّة بإفريقيا: جميع صُوَر دعم ثقافة السَّلام، ومكافحة النِّزاعات، وعلاج جراحاتها.

ولعلَّ الاستثمار في هذا الموروث السِّلميِّ بإفريقيا، يكون بإعداد الجيل الشَّاب من العلماء، إعداداً عمليّاً ميدانيّاً، في مشروعات السَّلام التي أصبحت «صناعة»؛ في ظلِّ الظُّروف المتشابكة في العصر الرَّاهن.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *