لجنة الإفتاء والإرشاد

***

تصريح حول تنظيم الحج لهذا العام ١٤٤١

الحمد لله والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .. وبعد :

 فقد صدر من وزارة الحج بالمملكة العربية السعودية قرار بإقامة حج هذا العام 1441 بأعداد محدودة جدًا للراغبين في أداء مناسك الحج من مختلف الجنسيات من المقيمين داخل المملكة.

 

هذا القرار يعد في نظري -على الأقل – هو الأحكم والأسلم لعدة أمور:

الأمر الأول:

أن هذا القرار يأتي في وقت كان الناس يتوقعون أن لا حج هذا العام، بسبب هذا الوباء العالمي الذي حصد من أرواح البشر ما يناهز النصف مليون نسمة.

وتوقفت كل الأنشطة التجارية العالمية وأغلقت المطارات ، والموانئ، والمساجد والجوامع والصوامع والبيع .. وعزلت المدن عن بعضها، وصام الناس رمضانهم بلا تراويح تذكر ، ولا عمرة تؤدى ، وأفطروا من غير صلاة العيد في معظم بقاع الأرض ..

فالقرار إذاُ جامعٌ بين عنصر المفاجأة ، وعنصر الحكمة كما يتبين فيما يأتي .

 

الأمر الثاني :

أننا إذا نظرنا إلى واقع الجاليات المقيمة داخل المملكة من الموظفين والمدرسين والعاملين والطلاب وغيرهم نجد أنهم يمثلون العالم الإسلامي كله، فحين يتم السماح لنخبة من أبناء هذه الجنسيات بأداء مناسك الحج يكون القرار قد راعى الوسطية في فتح باب الحج أمام  المسلمين الوافدين من العالم الإسلامي من غير مخاطرة بجلب الجموع المتكاثرة من الآفاق مما يتسبب في اشتعال نار الوباء ، فما لا يدرك كله ، لا يترك قُلُّه.

 

الأمر الثالث :

خرج هذا القرار – سالما – من مقاربتين  بينهما من التضاد ما بينهما، مقاربتين تتجاذبهما فئتان: فئة تذهب إلى أن الأولى الامتناع عن الحج هذا العام بناء على ما هو معروف مما ذكرته في مطلع هذه السطور حماية للأنفس المعصومة، وفئة مطبوعة على العاطفة فترى حتمية فتح باب الحج على مصراعيه من غير نظر إلى المآلات .

ولا يخفى على الفقيه أن الشريعة الإسلامية التي  أمرت بأداء الأركان حثت كذلك على حماية الأنفس، فمتى أمكن الجمع بينهما على أكمل وجه كان ذلك هو المتعين ، ومتى حالت ضرورة دون الصورة الأكمل وجب الانتقال إلى صورة دنيا، فمادام الجمع ممكنا وجب المصير إليه وإن كان الأداء في أدنى صوره .

 

وهذه النظرة الفقهية الشرعية كثيرا ما تخفى على أهل العاطفة وذوي الأغراض،

وهؤلاء هم الأكثر في الأمة على مدار التاريخ ، وطالما جروا الأمة إلى الكوارث ..

قال الحافظ ابن حجر العسقلانى رحمه الله فى كتابه “بذل الماعون فى فضل الطاعون” ص328، 329، عن الاجتماع للدعاء فى وقت الطاعون من أجل رفعه : “ووقع هذا فى زماننا، حين وقع أوَّلُ الطاعونِ بالقاهرة فى السابع والعشرين من شهر ربيع الآخَر سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة، فكان عددُ من يموتُ بها دون الأربعين، فخرجوا إلى الصحراء فى الرابع من جمادى الأولى، بعد أن نُودى فيهم بصيام ثلاثة أيام، كما فى الاستسقاء، واجتمعوا، ودعوا، وأقاموا ساعةً، ثم رجعوا، فما انسلخ الشهر حتى صار عددُ من يموت فى كل يومٍ بالقاهرة فوق الألف، ثم تزايد”.

 

غير أن في الأمة دوما حكماء يحكمون العقل ، ويقدمون الشرع على العاطفة المجردة .

فقد أخرج الإمام أحمد فى مُسنده، والطبرى فى تاريخه : أنه لَمَّا وقع طاعون عمواس، فى عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بأرض الشام، وكان أميرُها وقتئذٍ أمين الأمة أبا عبيدة بن الجراح، فأُصيب بالطاعون فمات، واسْتُخْلِفَ على الناس معاذ بن جبل، فأصيب، فلمَّا مات اسْتُخْلِفَ على الناس عمرو بن العاص رضى الله عنهم أجمعين، فقام فى الناس خطيبًا، فقال: «أيها الناس أن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فَتَجَبَّلُوا منه فى الجبال».. ثم خرج وخرج الناس فَتَفَرَّقُوا عنه ودفعه الله عنهم. قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فأثنى عليه خيرا  .

 

 فالأزمات دائما في حاجة إلى رجال يمتازون بحصافة الفكر، ودقة النظر ، وقوة الإرادة في اتخاذ القرار المناسب.

 ونتمنى أن يكون حج هذا العام بإذن الله حجا متميزا بمحدودية عدد  الحجاج مع المحافظة على اتساع الرقعة التي ينحدر منها حجاج بيت الله الحرام ، وستكون ظروف الحج بإذن الله مناسبة لأداء نسك مريح بكل المقاييس ، يجمع بين سطوع الروحانية النفسية الهادئة متناغمة مع إمتاع الحجاج بالراحة والسكينة الكاملة في طوافهم وسعيهم وصلاتهم وسكنهم وتنقلاتهم .

 أسأل الله أن يحفظ المملكة وسائر بلاد المسلمين ، وأن يرفع عن العالم هذا الوباء ويكفيهم شر كل بلاء.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .

 

  رئيس لجنة الإفتاء والإرشاد

 

 أ. د محمد أحمد لوح

  عميد الكلية الإفريقية للدراسات الإسلامية  بالسنغال

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *