الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي أعز أولياءه المؤمنين المتقين وجعل لهم في قلوب الخلائق ودا، أحمده – سبحانه – القاهر فوق عباده والأعز جندا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولم يتخذ صاحبةً ولا ولدا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله .. دعا إلى الله بإذنه وإلى صراطه المستقيم هدى، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وصحبه صلاةً وسلامًا نرجو ثوابهما عند الله غداً، أمّا بعد:

أما بعد .. فاتقوا الله عباد الله واعبدوه واشكروا له؛ واذكروا أنكم ملاقوه فأعدوا لهذا اللقاء عدته وخذوا له أهبته، ولا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغَرور .

أيها المسلمون: إن آثار الإيمان الصادق بالله – تعالى – وآثار العمل الصالح الذي يبتغي به وجهه ويقتدى فيه بنبيه – صلوات الله وسلامه عليه – تربو على العد وتجل عن الحصر .. وإنها آثارٌ لا تغمض عنها أجفان أولي الألباب ولا تغيب عن مدارك أولي النهى ولا تعزب عن نظر وتفكر أولي الأبصار وإن من حلو ثمار الإيمان ما يغرسه الله لأهله في قلوب خلقه من محبة لا يملكون ردها ومودة لا يستطيعون إلا الإقرار بها والخضوع لسلطانها أوضح ذلك سبحانه في محكم كتابه بقوله عز اسمه: )إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا[ (96 مريم)

وإن أعظم ما في هذا الود – يا عباد الله – أنه آيةٌ بينةٌ ودليلٌ ظاهرٌ على حب الله – تعالى – كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما واللفظ لمسلم – رحمه الله – عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ عليه السلام فَقَالَ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ قَالَ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ إِنَّ اللَّهَ عز وجل يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ قَالَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ.. الحديث .. فلا ترى في الناس إلا محبًّا له مثنيًا عليه رؤوفًا رحيمًا به .. عبَّر عن هذا أبلغ تعبير التابعي الجليل زيد بن أسلم – رحمه الله – بقوله : (( من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا )) : يريد أن الناس لا يملكون إلا أن يحبوه ، ولو أرادوا استشعار البغض له ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا .. فانظر إلى الإيمان والتقوى كيف أعقبا صحابهما في قلوب الناس حبًّا لم يعمل له ولم يسعَ إليه ولم يخطر له على بال، ولا عجب في ذلك .. فقد بلغ الإيمان والتقوى بأهلهما مرتبة الولاية فاستحقوا صفة أولياء الله الذين بشرهم ربهم بأنهم لا يخافون ما يستقبلون من أهوال يوم القيامة، ولا يحزنون على ما تركوا من خلفهم في الحياة الدنيا: )أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ[ (62- 63 سورة يونس) .

ونهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن سب أحدٍ منهم ، وبيَّن أنه لا يبلغ أحدٌ مبلغهم في الجلالة والفضل ولو أنفق ما أنفق من مال ، فقال – عليه الصلاة والسلام – : ” لَا تَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلَا نَصِيفَهُ .. أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – .

وبين – صلى الله عليه وسلم – أن حب الأنصار من علامات الإيمان الصادق وأن بغضهم من علامات النفاق ؛ ففي صحيح البخاري ومسلم – رحمهما الله – عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ” آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ ” .. وأخرج الشيخان في صحيحيهما عن البراء بن عازب – رضي الله عنه – : أنه قال : (( سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول : ” الْأَنْصَارِ لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ مَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ ” )) .

ولذا كانت محبة أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من أصول معتقد أهل السنة والجماعة التي لا خلاف بينهم فيها .. قال الإمام أبو جعفر الطحاوي – رحمه الله – معبرا عن ذلك : (( ونحب أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا نفرط في حب أحدٍ منهم ولا نتبرأ من أحدٍ منهم ، ونبغض من يبغضهم وبغير الحق يذكرهم ، ولا نذكرهم إلا بخير ، وحبهم دينٌ وإيمانٌ وإحسان ، وبغضهم كفرٌ ونفاقٌ وطغيان )) .. انتهى كلامه – رحمه الله – .

وإنما كان حبهم – يا عباد الله – دينًا وإيمانًا وإحسانًا لأنه امتثالٌ لأمر الله وطاعةٌ له وتقديمٌ لأمره ونهيه – سبحانه – على كل ما سواهما ؛ ولأنهم نصروا دين الله وجاهدوا مع رسوله – صلى لله عليه وسلم – وبذلوا في ذلك الدماء والأموال والأرواح، وما أحسن موقف المسلم الصادق من موقف هؤلاء الأسلاف العظام .. ذلك الموقف الذي صوره القرآن أبلغ تصويرٍ في قول ربنا – تقدست أسماؤه – : )وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[ (10 سورة الحشر) .

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم – أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ؛ إنه هو الغفور الرحيم .

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا .. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وصحبه.

أما بعد .. فيا عباد الله جاء عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قوله : (( من كان منكم مستنًّا فليستنَّ بمن قد مات؛ فإن الحي لا تُؤمَن عليه الفتنة .. أولئك أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – كانوا أفضل هذه الأمة وأبرها قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفا .. قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه؛ فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم )) .. فانظروا –  يا عباد الله – إلى قوله – رضي الله عنه – : ((قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه)) ، أفيختار الله لصحبة نبيه غير أفضل الأمة وأعظمها وأبرها وأتقاها له – سبحانه – ؟

وجاء عنه – رضي الله عنه – قوله أيضا : ((إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، وَبَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ)) .. انتهى .

فاتقوا الله عباد الله، وحاذر من معادة المؤمنين المتقين حذارًا من ذلك، وفي الطليعة منهم صحابة خاتم النبيين وسيد ولد آدم أجمعين .. وصلوا وسلموا على خير خلق الله محمد بن عبد الله؛ فقد أُمِرتُم بذلك في كتاب الله حيث قال – سبحانه – قولا كريما : )إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[ (56 سورة الأحزاب) اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة – أبي بكر وعمر وعثمان وعلي – وعن سائر الآل والصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .

اللهم أعز الإسلام والمسلمين .. اللهم أعز الإسلام والمسلمين .. اللهم اعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، ودمر أعداء الدين وسائر الطغاة والمفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين ووحد صفوفهم ، وأصلح قادتهم، ووحد كلمتهم على الحق يا رب العالمين .

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *