مشروع خطب الجمعة في إفريقيا
رقم الخطبة عنوان الخطبة معد الخطبة تاريخ المقترح لإلقاء الخطبة المراجعة والنشر
78

مخالفة أفعال الجاهلية

د. عبد المحسن بن محمد القاسم خطيب المسجد النبوي 18/03/1444هـ  الموافق 14/10/2022م الأمانة العامة

 

الموضوع : مخالفة أفعال الجاهلية

 

الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمده ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد:

فاتَّقوا الله – عباد الله – حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى.

أيها المسلمون: لله هو المُنعِمُ وحده، ونعمُه – سبحانه – على عباده لا تُحصَى، وأجلُّ النِّعَم: الإسلام، دينٌ كاملٌ جمعَ المحاسِنَ كلَّها، ورضِيَه الله لخلقه، ودعا الناسَ إليه، فهدَى من شاءَ منهم إليه، وتفضَّل عليهم به، قال – سبحانه -: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ [الحجرات: 17].

ومن لم يعرِف الجاهليَّةَ لم يعرِف حقيقةَ الإسلام وفضلَه، وقد كان الناسُ في جاهليةٍ دهماءَ اندثَرَت فيها معالمُ النبُوَّة، فبعثَ الله نبيَّنا محمدًا – صلى الله عليه وسلم – ليُخرِج الناسَ من الظلمات إلى النور.

ومن أكبر مقاصِد الدين: مُخالفةُ أعدائِه، لئلا يعودَ الناسُ إلى جاهليَّتهم؛ فنهَى عن التشبُّه بما يختصُّ به أهلُ الكتاب والمُشرِكون في عباداتهم وعاداتهم، ونهَى عن اتباع أهوائِهم، قال تعالى: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الجاثية: 18].

وكل أمرٍ من الجاهليَّة فهو مُهان، قال – عليه الصلاة والسلام -: «ألا كلُّ شيءٍ من أمر الجاهليَّة تحت قدميَّ موضوع»؛ رواه مسلم.

وأعظمُ باطلٍ كانوا عليه: الشركُ بالله، وهذا أكبرُ ما خالفَ فيه رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – أهلَ الجاهليَّة، فأتاهم بالتوحيد وإخلاص الدين لله وحده، والإعراضُ عما جاء به الرسولُ – صلى الله عليه وسلم – سبيلُ الضلال، وإذا انضافَ إلى ذلك استِحسانُ الباطل تمَّت الخسارة، قال – سبحانه -: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [العنكبوت: 52].

وحُسن الظنِّ بالله عبادةٌ وسعادةٌ، ومن أساءَ الظنَّ بربِّه فقد سلكَ طريقَ الجاهلين، قال تعالى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران: 154].

ومن ذلك: القدحُ في حكمته، والإلحادُ في أسمائِه وصفاتِه، ونسبةُ النقائِصِ إليه.

والأمرُ لله وحدَه فهو الربُّ وبيدِه مقاليد كلِّ شيءٍ، وإتيانُ السحرة والكُهَّان قدحٌ في الدين، وضعفٌ في العقل، ومُتابعةٌ لأهل الجاهليَّة.

قال مُعاويةُ بن الحكم: يا رسولَ الله! أمورًا كنا نصنعُها في الجاهليَّة، كنا نأتي الكُهَّان. قال: «فلا تأتوا الكُهَّان»؛ رواه مسلم.

وأُمِرنا بالتوكُّل على الله وتفويضِ الأمور إليه، والاستِعاذةُ بالجنِّ عند السحرة وغيرهم لعمل التمائِم ونحوِها، لا تزيدُ صاحبَها إلا خوَرًا وضعفًا، قال تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن: 6].

وفي الإسلام أبدَلَنا الله بالاستِعاذة به، «ومن نزلَ منزلاً ثم قال: أعوذُ بكلماتِ الله التامَّات من شرِّ ما خلَق لم يضُرَّه شيءٌ حتى يرتحِلَ من منزلِه ذلك»؛ رواه مسلم.

والأمواتُ أفضوَا إلى ما قدَّموا، والصالِحون يُدعَى لهم ولا يُدعَون مع الله، واتخاذُ القبور مساجِد ودعاءُ أهلها من سُنَّة أهل الكتاب، قال – عليه الصلاة والسلام -: «لعنةُ الله على اليهود والنصارى، اتَّخذُوا قبورَ أنبيائِهم مساجِد»؛ متفق عليه.

والحكمُ لله وحدَه، والتحاكُمُ إلى دينِه وشرعِه عدلٌ، والاعتِراضُ عن ذلك بغيرِه فسادٌ للمُجتمع، قال – سبحانه -: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50].

والتشاؤُم يُوهِنُ العزائِمَ، ويُضعِفُ اليقينَ بالله أو يُزيلُه، والمُسلمُ يُؤمنُ بقضاءِ الله وقدَرِه، ويُحبُّ الفألَ في جميعِ شُؤونِه، فلا عدوَى ولا طِيَرَة ولا هامةَ ولا صفَر.

والبركةُ تُرجَى من الله وحدَه، وطلبُها من الأشجار والأحجار، أو الأحياء والأموات، أو اعتقادُها منهم طريقُ عبَدَة الأصنام.

ومن نسَبَ النعمَ إلى غير الله، فما عرفَ فضلَه ولا شكَرَه، وهذا طريقُ الجاهلين، يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ [النحل: 83].

ومن سُنن الجاهليَّة: الاستِسقاءُ بالنُّجوم والتعلُّق بحركات الفلَك، فجاء الإسلامُ بإبطالِها، وتعليق القلوب بالله وحده.

والزمانُ مخلوقٌ مُسيَّرٌ، فمن سبَّه أو أضافَ له فعلاً ففيه من شُعب الجاهليَّة؛ حيث قالوا: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24].

والقدَرُ قُدرةُ الله، وعلى المُؤمن الإيمانُ به والتسليمُ لأمر الله وقدَره، والمُشرِكون يُنكِرون القدَرَ ويُعارِضُون به الشرعَ، فقالوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا [الأنعام: 148].

والتكذيبُ بالبعث أو الشكُّ فيه كفرٌ من طُرق الجاهليَّة؛ حيث قالوا: وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام: 29].

ومن كذَّب بآيات الله فهو مُتابِعٌ للمُشرِكين؛ إذ قالوا: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنعام: 25].

والأمنُ من مكر الله أو اليأسُ من روح الله يُنافِي الإيمان، وعليه كان أهلُ الأوثان، والمُؤمنُ يسيرُ إلى الله بين الخوف والرجاء عامرًا قلبَه بحبِّ ربِّه.

والله – سبحانه – هو الذي يُحلِّلُ ويُحرِّم، وليس للخلقِ من ذلك شيءٌ، خلافًا لما كان عليه أهلُ الكتاب؛ حيث اتخذوا أحبارَهم ورُهبانَهم أربابًا من دون الله.

وحُجَّةُ المُؤمن ومصدرُ تلقِّيه لدينِه هو الكتابُ والسنَّة بفهم سلَف الأمة، والتقليدُ والاحتِجاجُ بالآباء من حُجَج الجاهلين، وعلى ذلك بنَوا دينَهم، قال تعالى عنهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [لقمان: 21].

والكثرةُ في العدَد لا تدفعُ حقًّا، ولا تُحقُّ باطلاً، والاغتِرارُ بها ليس من نَهج المُرسَلين، والمُؤمنُ لا يستوحِشُ من قلَّة السالِكين، ولا ينخدِعُ بكثرَة الهالِكين. ومن ردَّ الحقَّ لضعفِ أهله أو قلَّتهم فقد جهِل الدين.

والاعتِياضُ عن الكتاب والسنَّة بكُتُبِ أهل الضلال من طُرق أهل الكتاب؛ حيث نبَذُوا كتابَ الله وراءَ ظُهورهم، واتَّبعوا ما تتلُو الشياطين.

والإسلامُ دينٌ قيِّمٌ فلا غلُوَّ فيه ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط، صراطٌ مُستقيمٌ مُجانِبٌ لطريقِ أهل الكتاب، ومن سُبُلهم الغلُوُّ؛ فغالَى النصارى في نبيِّهم عيسى – عليه السلام – وجعلُوه ربًّا، ومن جفائِهم لم يُعطُوا الربَّ ما يستحقُّه من الوحدانيَّة وقتَلوا الرُّسُل.

ولبسُ الحقِّ بالباطل وكتمانُه من طرائِقِهم؛ حيث اتخذُوا دينَهم لهوًا ولعبًا واتَّبعوا أهواءَهم.

ويدَّعون محبَّة الله والنجاةَ من النار دون عمل، مُعتمِدين على الأمانيِّ الكاذِبة، وقالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18].

ويجتهِدُون بإعمال الحِيَل الظاهرة والباطنة، وينسِبُون باطلَهم إلى الأنبياء والمُعظَّمين، وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف: 28].

عالِمُهم لا يعملُ بعلمِه، وجاهلُهم يقولُ على الله بلا علمٍ، ويعبُدُ الله على ضلال. ويقتُلون الذين يأمرون بالقسطِ من الناسِ، ومكَروا بهذا الدين مكرًا كُبَّارًا.

لا يعرِفُون للحقِّ إلا العِداء، وهم للباطل أعوانٌ وأصدِقاء. ولعِظَم ضلالِهم كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يُخالِفُهم في كل شيءٍ، حتى قال المُشرِكون: ما يُريدُ هذا الرجلُ أن يدَعَ من أمرنا شيئًا إلا خالَفَنا فيه.

حتى خالفَهم في أماكِن ذبحِهم: نذرَ رجلٌ أن ينحرَ إبلاً ببُوانةَ، فأتَى النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – فقال له: «هل كان فيها وثَنٌ من أوثانِ الجاهليَّة يُعبَد؟»، قالوا: لا، قال: «هل كان فيها عيدٌ من أعيادِهم؟»، قالوا: لا، فقال – عليه الصلاة والسلام -: «أوفِ بنذرِك»؛ رواه أبو داود.

وفي الصلاةِ والنداءِ إليها، أمرَنا النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – بمُخالفتهم؛ فشرعَ الأذانَ، وكرِهَ بُوقَ اليهود وناقُوسَ النصارى، وأبدلَ الله القبلةَ من بيت المقدِس؛ لأن أهل الكتاب يتوجَّهُون إليه.

ونهَى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الصلاة عند طلُوع الشمسِ وعند غُربِها؛ لأنها حينئذٍ يسجُدُ لها الكفار.

وصلاتُهم عند البيتِ مُكاءٌ وتصدِيةٌ، ونُهِينا عن الاختِصار والاشتِمال في الصلاة لفعلِ اليهود له.

ونهَى عن الصلاة قيامًا والإمامُ قاعِد، وقال: «إن كِدتُّم آنفًا لتفعَلون فعلَ فارس والرُّوم، يقومون على مُلوكِهم وهم قعودٌ، فلا تفعَلوا، ائتَمُّوا بأئمَّتكم إن صلَّى قائمًا فصلُّوا قيامًا، وإن صلَّى قاعِدًا فصلُّوا قُعودًا»؛ رواه مسلم.

وفي دَفن أمواتِنا نُخالِفُهم؛ فاللَّحدُ لنا والشقُّ لغيرِنا.

وفي الصدقةِ جاء الأمرُ بإنفاقِ الأموالِ في سبيلِ الله، وهم يُنفِقُونها للصدِّ عن سبيلِه، فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال: 36].

وفي الصيام فصلُ ما بين صيامِنا وصيامِ أهل الكتابِ أكلةُ السَّحَر، ولا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما أخَّروا السحورَ وعجَّلُوا الفطرَ؛ مُخالفةً لأهل الكتابِ.

وفي الحجِّ كان أهلُ الجاهليَّة لا يعتمِرون في أشهُر الحجِّ، فجاء النبي – صلى الله عليه وسلم – بمُخالفتهم وقال: «دخلَت العُمرةُ في الحجِّ»؛ رواه مسلم.

وكانوا يدفَعون من عرفة قبل الغُروب، ومن مُزدلِفَة بعد الشروق، فخالفَهم فأخَّر من هذا، وقدَّم من هذا.

وربما حجُّوا عُراةً، فأمرَ الله بسَتر العَورة وأخذ الزِّينة عند كل مسجِدٍ.

وكان لهم ذبائِحُ في الجاهليَّة، فنهَى عنها وقال: «لا فرَعَ»، وهو أولُ ولدٍ تُنتِجُه الناقةُ يذبَحونَه لآلهتهم، «ولا عتيرَةَ»، وهي شاةٌ تُذبحُ في رجب يتقرَّبُون بها؛ متفق عليه.

ونهَى عن الذَّبح بالظُّفُر؛ لأنها مُدَى الحبشَة.

وعند المصائِب أُمِرنا بالصبر والاحتِساب، ونُهِينا عما يُخالِفُ ذلك، قال – عليه الصلاة والسلام -: «ليس منَّا من لطَمَ الخُدودَ وشقَّ الجيوبَ ودعا بدعوَى الجاهليَّة»؛ رواه البخاري.

والكِبرُ والخُيلاء من عادات الجاهليَّة، قال – عليه الصلاة والسلام -: «أربعٌ في أمَّتي من أمر الجاهليَّة لا يترُكونَهنَّ: الفخرُ في الأحساب، والطعنُ في الأنساب، والاستِسقاءُ بالنُّجوم، والنِّياحةُ على الميت»؛ رواه مسلم.

والإسلامُ يُجِلُّ الإنسانَ ويُكرِّمُه، ونهَى عن السُّخريةِ بالآخرين واحتِقارِهم، فقال – عليه الصلاة والسلام – لمن عيَّر رجُلاً بأمِّه: «إنك امرُؤٌ فيك جاهليَّة»؛ متفق عليه.

وحذَّرَنا من الحميَّة، فهي سبيلُ النِّزاع والافتِراق، إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ [الفتح: 26].

ولما قال الأنصاريُّ: يا للأنصار! وقال المُهاجريُّ: يا للمُهاجِرين! قال: «ما بالُ دعوَى الجاهليَّة!»؛ متفق عليه.

وإذا كان هذا التداعِي في هذه الأسماء الشرعيَّة، فكيف بغيرِها؟!

وأُمِرنا بالاعتِزاز بمُعاملاتنا في البُيوع وغيرِها؛ لما فيها من الصدقِ والعدلِ والأمانة، ونُهِينا عن بُيوعِ الجاهليَّة، وعن نقصِ المِكيالِ والميزان، واكتِسابِ المالِ بالميسِر والقِمار، وشدَّد في الرِّبا.

وأحلَّ الله لنا أكلَ الطيبات وحرَّم علينا أكلَ الخبيث، وهم عكَسُوا ذلك.

ولا أحسنَ من خلق الله، ومن عادة أهل الكتاب: تغييرُ خلق الله، اتباعًا للشيطان الآمِر بذلك؛ فنهَى – عليه الصلاة والسلام – عن مُتابعتِهم وقال: «خالِفُوا المُشرِكين؛ وفِّروا اللِّحَى، وأحفُوا الشوارِبَ»؛ متفق عليه.

وأمرَ بصبغِ الشَّيب ومُجانبَته السواد، وتبرَّأَ ممن عقدَ لحيتَه أو تقلَّد وَترًا.

وكانت المرأةُ مُمتهَنةً في الجاهليَّة، فلا حجابَ يستُرُها ولا رجُلَ يحمِيها، وإذا بُشِّر أحدُهم بالأُنثَى ظلَّ وجهُه مُسوَدًّا وهو كظيم، وكانوا يئِدُون البنات، ومن قضائِهم: توريثُ الرجالِ دون النساء واستِحلالُ المحارِم.

واليهودُ يعتزِلُون المرأةَ أيامَ حيضَتها، فلا يُؤاكِلونَها، والنصارى يفعَلون معها كلَّ شيءٍ، فجاء المرأةُ بتكريمِ المرأة وسترِها وقال لهنَّ: وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب: 33].

وجعلَ لهنَّ حقوقًا وعليهنَّ واجِبات، وفي الإرثِ كتبَ لهنَّ نصيبًا مفرُوضًا، ومن عالَ جاريتين فأكثرَ كُنَّ له سترًا من النار.

وكانت الجاهليَّةُ تنسِبُ الولدَ إلى غير أبِيه، فقال – عليه الصلاة والسلام -: «الولدُ للفِراش»؛ متفق عليه.

والتسميةُ لها أثرٌ في المُسمَّى؛ فأُمِرنا باختِيار أفضلِ الأسماءِ للأولاد وغيرِهم، ونُهِينا عما يتَّخِذُه أهلُ الجاهليَّة من الأسماء؛ كالتعبيدِ لغير الله، أو الأسماء القَبيحَة، أو ما فيه تزكيةٌ للنفسِ. فغيَّر – عليه الصلاة والسلام – اسمَ “عاصِية” إلى “جميلة”، و”بَرَّة” إلى “زينب”، و”أبا الحكَم” إلى “أبي شُريح”.

وقال: «أحبُّ الأسماءِ إلى الله: عبدُ الله وعبدُ الرحمن».

واتَّخذَ أهلُ الجاهليَّة أعيادًا كما يهوَون، فأبدَلَنا الله عن أعيادِهم بعيدِ الفِطر وعيدِ الأضحَى.

ومن سُنَّتهم: لا يأمرُون بمعروفٍ ولا ينهَون عن مُنكرٍ، وإذا أمرُوا نسَوا أنفسَهم، فكانت هذه الأمةِ خيرَ أمةٍ أُخرِجَت للناسِ؛ تأمرُ بالمعروف، وتنهَى عن المُنكَر، وقُدوةً لغيرهم.

وشِعارُ الجاهليَّة الفُرقةُ والاختِلافُ، فلا يجتمِعُون على دينٍ ولا دُنيا، قال تعالى: وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 31، 32].

والاجتماعُ قُوَّةٌ وأُلفةٌ جاء الإسلام به ونهَى عن ضدِّه، قال – سبحانه -: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103].

واجتماعُ الناسِ على والٍ واحدٍ أمنٌ ورخاءٌ وقُوَّةٌ على الأعداء، ومن سُنن الجاهليَّة: الخروجُ على السُّلطان ومُفارقةُ الجماعة، قال – عليه الصلاة والسلام -: «من خرجَ على السُّلطان شِبرًا ماتَ ميتةً جاهليَّةً»؛ متفق عليه. «ومن قاتلَ تحت رايةٍ عِمِّيَّةٍ فقُتِلَ فقِتلةٌ جاهليَّة»؛ رواه مسلم.

وإن الله يرضَى لكم ثلاثًا: أن تعبُدوه ولا تُشرِكوا به شيئًا، وأن تعتصِموا بحبلِ الله جميعًا ولا تفرَّقُوا، وأن تُناصِحُوا من ولاَّه الله أمرَكم.

قال الشيخُ محمدُ بن عبد الوهابِ – رحمه الله -: “ولم يقَع خللٌ في دينِ الله ودُنياهم إلا بسببِ الإخلالِ بهذه الثلاثِ أو بعضِها”.

وبعدُ .. أيها المسلمون:

فدينُنا دينُ كمالٍ وعزَّة، والتمسُّكُ به أصلُ كل خيرٍ وفلاح، واقتِفاءُ آثار الجاهليَّة أمارةُ ضعفِ المرء، ومن اتَّخذَ شيئًا منها أبغضَه الله، قال – عليه الصلاة والسلام -: «وأبغضُ الناسِ إلى الله: مُبتغٍ في الإسلام سُنَّةَ الجاهليَّة»؛ رواه البخاري.

والمُتابعةُ تُورِثُ المحبَّة، والمُشاركةُ في الظاهر وسيلةٌ إلى مُوافقَة الباطِن، ومن تشبَّه بقومٍ فهو منهم، وما ابتدَعَت أمةٌ بدعةً إلا نُزِع عنها من السنَّة مثلُها، وما أحيَا قومٌ سُنَّةً جاهليَّةً إلا ترَكوا من الهُدى أضعافَها.

أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قولِي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولجميع المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

 

الحمدُ لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، وسلَّم تسليمًا مزيدًا.

أيها المسلمون:

خيرُ من يُقتدَى به: نبيُّنا – صلى الله عليه وسلم -؛ حيث كمَّله الله وكمَّل له شرعَه ودينَه، والشهادةُ له – عليه الصلاة والسلام – بالرسالةِ بلُزوم طاعته ومُتابعتِه، وكلَّما كان العبدُ أتبعَ لنبيِّنا – صلى الله عليه وسلم – كان أعظمَ توحيدًا.

وأسعدُ الخلقِ وأعظمُهم نعيمًا وأعلاهم درجةً أعظمُهم اتباعًا ومُوافقةً له علمًا وعملاً.

فيجبُ على العبدِ أن يعرِفَ من هديِه – عليه الصلاة والسلام – وسيرتِه وشَأنه ما يخرُجُ به عن عِداد الجاهلين، ويدخلُ في عِدادِ أتباعِه المُفلِحين.

ثم اعلَموا أن الله أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائِه الراشِدين، الذين قضَوا بالحقِّ وبه كانُوا يعدِلُون: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائرِ الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمُسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعَل اللهم هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا رخاءً، وسائرَ بلادِ المُسلمين.

اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم رُدَّهم إليك ردًّا جميلاً، اللهم اجعَل ديارَهم ديارَ أمنٍ ورخاءٍ وإيمانٍ يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وفِّق إمامَنا لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك، ووفِّق جميعَ وُلاة أمور المُسلمين للعمل بكتابِك وتحكيم شرعِك يا ذا الجلال والإكرام.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201]، عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90].

فاذكروا الله العظيمَ الجليلَ الكريمَ يذكركم، واشكرُوه على آلائِه ونعمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

 

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *