مشروع خطب الجمعة في إفريقيا
رقم عنوان الخطبة معد الخطبة التاريخ المقترح لإلقاء الخطبة المراجعة والنشر
113 مقاصد الحج الكبرى الشيخ د. ماهر أحمد المعيقلي  ـــ خطيب مسجد الحرام 19/11/1444هـ  الموافق 09/06/2023م الأمانة العامة

 

الموضوع ” مقاصد الحج الكبرى”

الخطبة الأولى

الحمدُ لله، الحمدُ لله الذي هدانا للإسلام وفرضَ علينا حجَّ بيتِه الحرام، وجعلَه سببًا لدخول الجِنان، وتكفيرِ الذنوبِ والآثام، أحمدُه تعالى وأشكُرُه، وأستعينُه وأستغفِرُه، وأُثنِي عليه الخيرَ كلَّه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه، وعلى آلِه وأصحابِه والتابِعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعدُ .. معاشر المؤمنين: فأُوصِي نفسِي وإياكم بتقوَى الله – عزَّ وجل -؛ فإنها العُدَّةُ والزاد، والمُدَّخرُ ليوم المعاد، ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ  البقرة: 197.

هنِيئًا لحُجَّاج بيت الله الحرام: ما خصَّكُم الله به؛ حيث ورَدتُم بيتَه المُعظَّم، وقصدتُم رُكنَ الإسلام الأعظَم، آمِّين البيتَ العتيق، مُلبِّين مِن كل فَجٍّ عمِيق، فقَصدُ   البِقاع المُبارَكة بالحجِّ والعُمرة يرفَعُ الدرجات، ويغفِرُ الذنوبَ والسيئات.

ففي “الصحيحين” من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال ) : العُمرةُ إلى العُمرةِ كفَّارةٌ لما بينَهما، والحجُّ المبرُروُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة)

فكَم حجَّ هذا البيتَ مِن الأنبياء والمُرسَلين! وكَم تنقَّلُوا بين هذه المشاعِر مُهِلِّين ومُلَبِّين!

فهذا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في حجَّة الوداع، وهو يقطعُ هذه الفَيافِيَ الفِساح، وكأنما جِبالُها ووِهادُها، وآكامُها وأوديتُها تروِي له خبَرَها، وتُحدِّثُه بمَن مرَّ بها.

فدينُ الأنبياء واحِد، وكلُّهم جاء بعبادة ربٍّ واحِد.

ففي “صحيح البخاري” عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-:  (الأنبِياءُ إخوةٌ لعَلَّات، أمَّهاتُهم شتَّى، ودينُهم واحِد)

معاشِر المُؤمنين: إن توحيدَ الله – جلَّ جلاله، وتقدَّسَت أسماؤُه – أعظمُ مقاصِد الحجِّ وأجَلُّها؛ فما رُفِع هذا البيتُ العتيقُ إلا بالتوحيدِ ولأجلِ التوحيد،  ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا ﴾   الحج: 26.

والتوحيدُ – يا عباد الله – هو أساسُ الدين؛ فعن جابِرٍ -رضي الله عنه- قال: سمِعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول)  : «مَن لقِيَ اللهَ لا يُشرِكُ به شيئًا دخلَ الجنَّة، ومَن لقِيَه يُشرِكُ به دخلَ النَّار) رواه مسلم.

وفي مُحكَم التنزيل:  ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار المائدة: 72.

وبالتوحيدِ تُغفَرُ الخطايا والسيئات؛ ففي “سنن الترمذي” أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «قال الله – تبارك وتعالى -: يا ابنَ آدم! إنَّك لو أتَيتَني بقُرابِ الأرضِ خطايا، ثم لقِيتَنِي لا تُشرِكُ بي شيئًا، لأتَيتُك بقُرابِها مغفِرَة .

أمة الإسلام: وكما أمرَ الله تعالى بإخلاصِ العبادة له وحدَه، فإنه أمرَ بالإحسان إلى عبادِه، وتعظيمِ حُرُماتهم، والقِيام بحُقوقِهم، والرَّحمةِ والرِّفقِ بهم. ففي حجَّة الوداع وجَّهَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الفارُوقَ بقولِه: «يا عُمر! إنَّك رجُلٌ قوِيٌّ، لا تُزاحِم على الحجَر فتُؤذِيَ الضَّعيفَ، إن وجَدت خَلوةً فاستَلِمه، وإلا فاستَقبِله فهلِّل وكبِّر  (رواه الإمام أحمد

توجيهٌ نبويٌّ كريمٌ لعُموم المُؤمنين بأن يتحلَّوا بالرِّفقِ والرَّحمةِ، واللِّين والرَّأفَة، خاصَّةً في مثلِ هذه المواسِمِ التي يكثُرُ فيها الناسُ، ويحصُلُ فيها الزِّحام، فلا يكُن أحدُهم سببًا في إلحاقِ الأذَى بإخوانِه.

ولنعلَم – معاشِر المُؤمنين – أن تحصيلَ الأجر في النُّسُك لا يبلُغُ الكمال إلا بالرِّفقِ واللِّين؛ لأن الله تعالى يُعطِي على الرِّفقِ ما لا يُعطِي على العُنفِ.

ففي “صحيح مسلم” عن عائشة زوجِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يا عائشة! إن الله رفِيقٌ يُحبُّ الرِّفقَ، ويُعطِي على الرِّفقِ ما لا يُعطِي على العُنفِ، وما لا يُعطِي على ما سِواه».

قال الإمامُ النوويُّ – رحمه الله -: “ومعنى «يُعطِي على الرِّفقِ» أي: يُثيبُ عليه ما لا يُثيبُ على غيرِه”.

ولقد تمثَّل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أعظمَ معانِي التيسيرِ والرَّحمةِ في مقالِه وحالِه؛ ففي حجَّة الوداع مِن حديث جابرٍ – رضي الله عنه وأرضاه -، أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال ):  نحَرتُ ههنا، ومِنَى كلُّها منحَر، فانحَرُوا في رِحالِكم، ووقفتُ ههنا وعرفةُ كلُّها موقِف، ووقفتُ ههنا وجَمعٌ كلُّها موقِف  (رواه مسلم

وأما تحقِيقُ الأُخُوَّة الدينيَّة والرابِطة الإيمانيَّة فهي تتجلَّى في الحجِّ بأبهَى صُورِها، وأجمَل حُلَلها؛ فالحَجِيجُ يطُوفُون ببيتِ الله، ويجتمِعُون على صَعِيد عرفة، ويبيتُون بمُزدلِفة؛ فمعبُودُهم واحِد، وأعمالُهم واحِدة، ولِباسُهم واحِد، وقِبلتُهم واحِدة.

وفي حجَّة الوداع لما انقضَت ساعاتُ نهارِ يوم عرفَة، ورسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في ذِكرٍ وخُشُوعٍ، ولهَجٍ بالدُّعاء وخُضُوع.

و كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا الاختِيار يُعلِنُ تحطيمَ الفوارِقِ بين البشَر، ويدفِنُ تحت مواطِئِ راحِلَته نعراتِ الجاهِليَّة الأُولى؛ ليُعلِنَ بطريقةٍ عمليَّةٍ أنه لا فضلَ لعربيٍّ على أعجميٍّ، ولا أبيضَ على أسوَد إلا بالتقوَى،  ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾   الحجرات: 13.

ومِن مقاصِدِ الحجِّ الكُبرَى: إقامةُ ذِكرِ الله – عزَّ وجل -، بل كلُّ طاعةٍ إنما شُرِعَت لإقامةِ ذِكرِ الله، فأعظمُ الناسِ أجرًا أكثَرُهم فيها لله ذِكرًا.

قال ابنُ القيِّم – رحمه الله -: “إن أفضلَ أهل كلِّ عملٍ أكثَرُهم فِيه ذِكرًا لله – عزَّ وجل -؛ فأفضلُ الصُّوَّام أكثَرُهم ذِكرًا لله – عزَّ وجل – في صِومِهم، وأفضلُ المُتصدِّقِين أكثَرُهم ذِكرًا لله – عزَّ وجل -، وأفضلُ الحُجَّاج أكثَرُهم ذِكرًا لله – عزَّ وجل -“.

فمِن حِين أن يُحرِمَ الحاجُّ فهو في ذِكرٍ لله –تعالى- إلى أن يطُوفَ طوافَ الوداع.

ففي “سنن أبي داود” مِن حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم )-:  إنما جُعِل الطوافُ بالبيتِ وبين الصفا والمروة، ورميُ الجِمار لإقامةِ ذِكرِ الله)

وهكذا هو الحجُّ – يا عباد الله -، أيامٌ وليالٍ معدُودات يُبدَأُ فِيها بذِكرِ الله، وتُختَمُ بذِكرِ الله، فلا مجالَ فيها لغَير ذلك مِن الشِّعارات الطائِفِيَّة، والتحزُّبات السياسيَّة، إنما هو إخلاصٌ وتوحيدٌ، وإعلاءٌ لذِكرِ العزيز الحميد، ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾  البقرة: 200- 202.

بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم مِن كل ذنبٍ، فاستغفِروه؛ إنه هو الغفورُ الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله، الحمدُ لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتِنانِه، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّه الداعِي إلى رِضوانِه، وعلى آلِهِ وأصحابِه وإخوانِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعدُ .. معاشر المُؤمنين: إن مِن أعظَم مقاصِدِ الشريعَة: اليُسرَ والتيسيرَ على عبادِ الله، خاصَّةً فيما يتعلَّقُ بعبادتِهم، وهذا مِن حِكَم بِعثة النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-.

قال الله تعالى ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾  الأعراف: 157 .

وبِناءً على هذا؛ فإن تيسيرَ الحجِّ على المُسلمين وخِدمةَ ضُيُوفِ ربِّ العالَمين يُعدُّ مِن أعظَم مقاصِدِ الشريعَة، وقد شرَّفَ الله تعالى بِه بلادَ الحرمَين المملكة العربية السعودية، باستِقبال ضُيُوفِه وعُمَّار بيتِه

ثم اعلَمُوا – معاشِرَ المُؤمنين – أن الله أمرَكم بأمرٍ كريمٍ، ابتَدَأَ فيه بنفسِه فقال – عزَّ مِن قائِلٍ :  ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ الأحزاب: 56.

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما بارَكتَ على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.

وارضَ اللهم عن الخُلفاء الراشِدِين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائِرِ الصحابةِ والتابِعِين، ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وكرمِك وجُودِك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، واحمِ حَوزةَ الدين، واجعَل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا، رخاءً سخاءً، وسائرَ بلادِ المُسلمين.

سُبحان ربِّك ربِّ العزَّة عما يصِفُون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

 

 

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *